مازن، وأنا لا نؤمن بطقوس “عيد الحب” الموقع في 14 فبراير / شباط من كل عام، لا نؤمن أننا بحاجة إلى الاحتفال بالحب في يوم محدد، بل بكون الحب كما أي عاطفة إنسانية هو ممارسة، وممارسة يوميّة، غنيّة بالتفاصيل التي تحيّ هذه العاطفة أو تقتلها.
إلاّ أنّ هذا التاريخ اتخذ معنى آخر في حياتنا المشتركة، لارتباطه بذكرى الاعتقال التعسّفي الذي تعرّضنا له في 16 فبراير / شباط 2012 نتيجة عملنا في “المركز السوري للإعلام وحريّة التعبير” على يد المخابرات الجوية في سوريا.
أسّس مازن، وهو صحفي ومدافع عنيد عن حقوق الإنسان، المركز في دمشق وعمل فيه منذ العام 2004، ليراقب وضع الحريّات والانتهاكات بحق الإعلاميين والواقع الإعلامي في سوريا. تعرّض مقر المركز للإغلاق مرتين (2006-2009)، ومُنِعَ مازن درويش (1974) من السفر عام (2007) من قبل فرعين أمنيين مختلفين، وبهذا قُيّدت حريته في رؤية ولقاء أطفاله الاثنين (إنانا – أداد). اعتقل مازن أكثر من مرّة، وكانت المضايقات الأمنيّة جزءًا من ملح حياتنا اليومي. إلاّ أنّ مرّ اعتقال 16 فبراير / شباط 2012 كان مختلفًا. كان قهرًا يحفر في الروح والذاكرة. إذ وفي حين أطلق سراحي بعد أيام قليلة على أن استمر في المراجعة اليومية على مدى (64) يومًا ثمّ أحلت إلى السجن المدني، بقيّ مازن طوال تسعة أشهر دون أي أنباء عنه. بقيت لا أعلم إن كان على قيد الحياة أم لا، أنظر إلى الورد الأبيض “منتور بلدي” الذي تعبق رائحته في منزلنا الصغير وهو يذبل وأفكر هل تذبل حياتنا المشتركة التي لم تتجاوز الخمسة أشهر؟؟ هل كل ما بقيّ لدي صور ورائحة؟؟ وماذا عن الربيع القادم؟؟
كان “عيد الحب” من عام 2012 أوّل عيد نقضيه ونحن متزوجان. يومها أحضرت ورودًا بيضاء إلى المنزل، نفضّلها مازن وأنا، سرت تحت المطر لأحضرها. أمّا مازن فلم يستطع أن يحضر لي الهدية الصغيرة التي رغب بتقديمها يوم الخميس 16 فبراير / شباط، فمازن هو ذاك المسكون بالعمل حتى العظم، ففضّل الانتظار إلى يوم الخميس الذي يليه يوم العطلة الأسبوعية، لكنه اختطف من بيننا قبل نهاية اليوم، وقبل أن تشرق صباح اليوم التالي.
في الربيع اللاحق، كان مازن في سجن دمشق المركزي – هو واثنين من الزملاء العاملين في المركز – الذي حوّل إليه بعد تسعة أشهر من الغياب الكُليّ عنّا وعن الحياة وعن الحرب في سوريا. يومها أحضرت له وردةً بيضاء سرقت أكثر من ساعة من وقت الزيارة الذي أراه منقوصًا، أقلّ من احلامنا وآمالنا بكثير، لأنني احتجت إلى موافقة مدير السجن قبل أن يُسمح لي بإيصالها إليه. الأمر الذي ترافق بنظرات سخرية وتعليقات من الكثيرين في ذاك المكان. حين التقيت مازن من خلف شبكين يفصل بينهما مسافة تقارب (60) سم كنت اشعر بالغضب والبرد فقط. ابتسم مازن – كعادته – وأخبرني أنّه تعرّض لعقوبة كذلك لأنه حاول شراء بوكيه ورد أبيض لي. ووجدنا أنفسنا نبتسم من حزننا.
اليوم، بكل ألم لا أملك حتى المقدرة على رؤية مازن. إذ تمّ نقله قبل حوالي اسبوعين إلى سجن حماة المركزي، حيث الطريق محفوف بالمخاطر نتيجة الاشتباكات في محيط المكان، وصعوبات كثيرة أخرى عدّة. لن تصله وردتي البيضاء ولن تصلني وردته، ولا نملك حتى رفاهية الابتسام معًا. لكننا نملك قلوبًا بيضاء هي أكثر حياةً وأقوى عطرًا من وردة لا تزهر إلاّ في الربيع. قلوب بيضاء هي كل ما نملك لمواجهة هذه الحرب، وهذا الاعتقال، وهذه السنين التي تسرق من حيواتنا بكل ما فيها.
قبل ثلاث سنوات كان كل من نعرف ونحب معنا ومن حولنا في دمشق. اليوم كثير منهم معتقلون ومعتقلات، مفقودون ومفقودات، مخطوفون ومخطوفات، أو يصارعون للحياة ومن أجل البقاء على شواطئ بعيدة من حول العالم، وحيدون جميعنا بأرواح متعبة، ولكن بقلوب بيضاء.
إلى جميع الغيّاب، أينما كانوا، مازن وأنا نهدي قلبًا أبيض هذا العام.
يارا بدر