في كل خطاب يخرج فيه بشار الأسد يثبت أنه أصبح ليس أكثر من ناطق إعلامي في بلد يشغل فيه المنصب الفخري لرئاسة سوريا دون أن يتمتع بأية سلطة تنفيذية في حكم البلاد، حيث يعلم القاصي والداني بأن القرار السياسي السوري أصبح بيد السلطة الايرانية والروسية، اللتان وقفتا بكل وفاء إلى جانب النظام السوري في سبيل احتلال البلد عن بعد لتحقيق مصالح دولية (بغض النظر عما سيحل بسوريا نتيجة ذلك).
امتلكت روسيا القرار في سوريا بعد اعتراصها في مجلس الأمن على كل قرار يتم طرحه، من شأنه أن يؤدي إلى إقالة أو محاسبة أو حتى مسائلة النظام السوري عما يرتكبه بحق شعبه، حتى وصل بها الأمر للاشتراك مع نظام الأسد في معاقبة الشعب السوري عن طريق الاعتراض على القرار الداعي لإدخال مساعدات غذائية للمناطق المحاصرة.
كما امتلكت إيران السلطة العسكرية في سوريا بشكل تدريجي منذ بداية الثورة السورية عن طريق إدخال الحرس الثوري الإيراني والمستشارين العسكريين والقناصين المحترفين، وكذلك تحكّمها بذراعها اللبناني (حزب الله) والعراقي ( ميليشيا أبو الفضل العباس) ليدخلوا ويقودوا المعارك إلى جانب جيش النظام السوري في البداية، ولاحقاً قيادة العمليات في مرحلة لإقصاء جيش النظام والاستهزاء به كما تبين الخلافات التي نشبت فيما بينهم أكثر من مرة.
أشعلت كلمات خطاب بشار الأسد الأخير الذي قال فيه “إن البلد ليس لكل من يحمل جواز سفره أو يسكنه، وإنما هو لكل من يدافع عنه” غضب الثوار السوريين الذي قضوا أربع سنوات في مقارعة النظام واتباعه في سبيل تحرير بلدهم من نظام ينتهك كل قوانين الإنسانية والمواثيق الدولية باستخدام الاسلحة المحرمة دولياً واستخدام الجوع لإخضاع المناطق التي خرجت عن سيطرته.
ربما لم تصدر هذه التصريحات بغير قصد أو خطأ ممن أعد الخطاب، وإنما فُرضت من أصحاب القرار كخطوة أولى لتشريع حكهم اللا مباشر في المستقبل وتحويله إلى حكم مباشر، فقول الأسد هذه العبارات يعني أن من حق أي شخص يقاتل تحت شعار حماية البلد أن يكون من أصحاب القرار في البلد، ومن وجهة نظر موالية فإن الإيراني والعراقي اللبناني والأفغاني الذي يقاتل في صفوف النظام يدافع عن سوريا وعن السيادة الوطنية فيها ضد الخطر الإرهابي والمخطط التقسيمي الذي يُحاك للمنطقة.
لكن ربما نسي الأسد أيضاً أنّ التيارات الإسلامية كجبهة النصرة وداعش وغيرهما ممن يقولون أيضاً أنهم يدافعون عن أرض بلاد الشام ويضمون بصفوفهم الشيشاني والأفغاني والخليجي وغيرهم. فهل يشرع الأسد لهؤلاء أيضاً الحق أن يحكموا سوريا وأن البلد لهم بما أنهم يدافعون عنها، أم أن هذا القانون الجديد يقتصر على حلفائه فقط؟؟
يلتقي خطاب بشار الأسد مع خطاب حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله الذي أدلى به الشهر الفائت بعدة نقاط، كان أهمها أن حزب الله لن يتراجع في سوريا وأنه اتخذ قراره بالبقاء فيها. حتى أصبح الإعلام السوري الرسمي لا يدرج أي خبر “لانتصار” جيش النظام إلا ملحقاً إياه بجملة “بمساندة المقاومة اللبنانية” وكأن حزب الله بات منتشراً على كافة الأراضي السورية تحت حجج واهية كان أولها أنه دخل سوريا لحماية المراقد الشيعية، التي لم يعتدي عليها أحد.
أدت معركة الزبداني التي يقودها حزب الله ويسانده طيران النظام ومدفعيته في تدمير المدينة وقصفها عشوائياً بمئات البراميل المتفجرة، فكان رد الكتائب المقاتلة بفتح النار على القرى التي يتحصن فيها حزب الله في شمال سوريا لإجبار حزب الله على التراجع وتخفيف الضغط عن الزبداني، فما كان من الحزب ومن خلفه إيران إلا بالتوجه نحو طاولة مفاوضات مع حركة أحرار الشام (فصيل إسلامي مقاتل في سورية لا تضم صفوفه إلا سوريين) التي تم تفويضها من قبل باقي الكتائب لتزعم المفاوضات دون أي وجود للنظام وكأن الأمر لا يعنيه -أو لا يمكنه البت فيه- لتكون دون جدوى. انتهت المفاوضات وعادت أحرار الشام للقصف والتصعيد، وعللت الأخيرة ذلك بأن الطرف الإيراني المفاوض وضع اقتراح بالسماح بخروج من يتواجد في الزبداني مقابل فك الحصار عن القرى الموالية في الشمال السوري، وقالت أحرار الشام أنها لا ترى في هذا البيان سوى خطوة من إيران لتغيير الديموغرافيا السورية وإفراغ المدينة من أهلها الأصليين الذين سكنوها منذ آلاف السنين في سبيل توطين مهاجرين مقاتلين من الحرس الثوري الايراني وحزب الله ممن قدموا مع عائلاتهم للاستقرار في سوريا بعد أربع سنين من الحرب.
من الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي تستلم فيها إيران مفاوضات وتقدم فيها هذا الطرح، فطاولة مفاوضات حمص في عام 2014 التي تمت مع المحاصرين في مدينة حمص بعد سنتين ونصف عانوا فيها ما عانوه من جوع الحصار – حتى باتوا يأكلون الأعشاب ويشربون المطر- انتهت بترحيل سكان مدينة حمص من أحيائهم وعدم قدرتهم على العودة إليها رغم إعلانها مناطق آمنة، كما كانت قد كُشفت وثائق تُثبت توطين إيرانيين في مدينة دمشق واستملاكهم لعقارات ضخمة وكبيرة، وكل ذلك في سبيل تغيير ديموغرافيا بلد لم يعرف التقسيم أو التهجير الطائفي في تاريخه.
لم يكذب بشار الأسد بقوله البلد لمن يحميها، فهو قصد أن البلد أصبحت لإيران وحزب الله، أما المعنى الحقيقي والخفي الذي تداركه في قوله هذا، أن البلد لشهدائها الذين يقضون كل يوم في سجون النظام تحت التعذيب في سبيل نيل الحرية التي كتبت بدمهم، والبلد لرجال حملوا السلاح مرغمين على ذلك في سبيل مقارعة نظام قاتل يضرب شعبه كل يوم بالبراميل المتفجرة الهمجية. كل ذلك لأنهم قالوا “لا” بوجهه.
المجد لمن قال “لا”.