رآنا نتقدم نحو بيته وهو جالس أمام منزله على كرسي بلاستيكي أخضر، نظر إلينا ونحن ننزل من السيارات، كنا حوالي الثماني اشخاص، يعرف هو بعضنا سابقاً وليس بعضنا الآخر (وأنا منهم)، لكنه عرف جيداً أننا قادمون لزيارته، فوقف وقال لنا بصوت عال واثق غير مرتجف “إذا جايين تعزوني رجعوا من مكان ما اجيتو، أما إذا جايين تهنوني وتعايدوني فاتفضلوا البيت بيتكم”.
صدمني العم أبو ماجد كرمان بهذا الكلام والقوة. أبو ماجد الذي فقد اثنان من عائلته في ساحات المعارك، وكان آخرهم عبادة أبو الليث، صهره زوج ابنته، وهو قائد عسكري بكتائب ثوار الشام المنتمية للجيش الحر، وقد استشهد في معركة بمدينة حلب. قبله بشهور كان قد استشهد ابنه ماجد كرمان الذي كان يقود كتيبة عسكرية تابعة لفصيل آخر من الجيش الحر.
رغم كل هذا الفقد والخسائر إلا أن أبو ماجد رفض أن نعزيه بفقدانهم وفراقهم وقال لنا “لا عزاء لنا بشهيد، وإنما على دربهم نحن سائرون”.
كان حديثه حازم الكلمات، قوي التعابير، عينيه تتكلم قبل لسانه، فترى من هذا الرجل الخمسيني قوة تخرج كالشرر من عينيه عندما يتكلم عن ثوابت الثورة، تجاعيد وجهه من لحيته الخفيفة البيضاء كفيلة لتحدثك عن خبرته بالحياة.
بدأنا نتحدث عن المعارك الدائرة بريف حلب وحلب المدينة، فكان يتحدث بتكتيكك عسكري وخبرة وكأنه ضابط عسكري، كذلك كان يعطي اهتمام كبير للمدنيين، فعندما نتحدث عن أي منطقة كان يذكر عدد المدنيين الذين يسكنونها وعن نسبة الخطر الذي يتعرضون له بحال حصول معارك في مناطقهم.
حال مدينة حلب في ذلك الوقت كحالها اليوم، لا يزال قسم منها يتحصن فيه النظام والجيش واللجان الشعبية المعروفة “بالشبيحة”، وقسم خارج عن سيطرة النظام وتتواجد فيه الفصائل العسكرية المقاتلة للنظام تحت مسمى الجيش الحر بالإضافة لبعض الفصائل الجهادية وعدد من المدنيين الذين رفضوا ترك بيوتهم رغم القصف اليومي الذي تتعرض له المدينة، والعم أبو ماجد وعائلته أحدهم. عندما سألته عن سبب بقائه قال “قل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم” وتبعها بحديثه “يا عم معقول اترك بيتي، معقول اترك الفرشة اللي كان ينام عليها الشهداء، هدول الشهداء صح تركونا بس تركولنا أمانة كبيرة ولازم نحافظ عليها”.
كان بدني يرتعش من كلامه، كان يتحدث بنبض ثوري لم يشهد لي أن سمعت مثله، فهو الرجل الذي قاد المظاهرات السلمية أيام كانت المظاهرات تخرج وتتحدى النظام في عقر داره، أيام كان ناشطو حلب يرمون المناشير الثورية في الأحياء الموالية ليزيدوا وعيهم ويجذبونهم نحو الثورة، وتابع مع مختلف المجالس الثورية وكان صديقاً مقرباً من كل الإعلاميين والناشطين بحلب، كذلك يتمتع بمحبة ومودة من أغلب مقاتلي الجيش السوري الحر.
قمت بجولة على الرصيف بجانب بيته الذي قام بطلاء سور حائطه بأعلام الثورة. كذلك كان باب البناء الكبير المقيم به بألوان الثورة وهذا ما يدل على عمق تعلقه بالثورة، دعاني العم أبو ماهر ليقول “تعا اتحلى تعا”، عدت إلى الجلسة التي كانت على شكل دائرة لأجد فناجين من القهوة مع صحن حلويات منزلية الصنع، وقال “كلو حلوان الشهيد، كلو حلوان العريس” فلم أعرف ما أفعل هل كان علي أن أمسك الحلويات أم أن أمسك دمعتي، التي أمسكتها بصعوبة.
كانت هذه الزيارة في رمضان الماضي عندما قررت أن اقضيه في الداخل السوري بعد خروجي من سوريا واستقراري بتركيا، رغم كون انتمائي للدين المسيحي والتحذيرات التي تلقيتها قبل دخولي إلا أنني لم أشعر إلا أنني بين أهلي وناسي، فالثورة لا تعرف الفرق بين مسلم ومسيحي.
كانت مطالب أبو ماجد واضحة ومحددة، كانت نظرته لسوريا الديمقراطية المتمتعة بالحرية لكافة مكوناتها. كانت هذه هي تهمته، كانت هذه هي جريمته.
تعرض العم أبو ماجد منذ فترة قريبة لعملية اختطاف من قبل سيارة أكد من شاهدها أنها تتبع لجبهة النصرة (تنظيم القاعدة في بلاد الشام)، وقد قام الأخير بنفي علاقته بالموضوع أو أن يكون العم أبو ماجد معتقل لديه، ولكن في كثير من الأحيان كان التنظيم لا يصرح عن المعتقلين والمخطوفين لديه في سياسة تعتيم وتغييب قصري ينتهجها منذ تأسيسه.