نُشرت هذه المقالة المترجمة إلى الأسبانية على موقع El País وتم نشرها هنا بعد الموافقة.
مر الكثير من الوقت منذ أن أصبحت التكنولوجيا والإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حركة التغيير الاجتماعي والنشاط السياسي في مصر. بدت تلك الوسيلة واعدة للغاية ومشوقة منذ بدايتها، كما بدت حصرية بطريقة ما. ومن ثم بدأ جيلي في اكتشاف وتجربة الإنترنت والتعامل معه كأداة تعمل على التنظيم، والترتيب، والإبداع بطريقة مختلفة، والتعبير عن أفكارنا واكتشاف مستوى أعمق من أفكار زملائنا. لم يوجد حينها ما يحدد المسموح أو الغير مسموح، ولم نكن بحاجة إلى موافقة من أحد على أي شيء. بدأت مع زملائي في مجال التكنولوجيا في الاستفادة من البرمجة، شغفنا الأول، للعمل على مصدر تكنولوجي مفتوح ومجاني، يعمل على تطوير حلول منهجية تستهدف الاحتياجات المختلفة للنشطاء السياسيين، والأحزاب، وجماعات حقوق الإنسان، والعاملين في وسائط الإعلام، والشباب.
تم تقديم العديد من المواضيع والقصص بشجاعة عبر ذلك الفضاء الالكتروني في أشكال مختلفة من الوسائل الإعلامية، فتضمنت نصوص، وفيديوهات، وصور جميعها تخاطب مواضيع هامة مثل التعذيب، والفساد العسكري، ومشكلات الأقلية، والعنف الجنسي، والمشكلات الاقتصادية، وبالطبع مشكلات الديموقراطية. كل ذلك أعطانا أمل وجعل تحقيق الأشياء ممكنًا.
كان كل شيء مختلف فيما مضى، فلم يوجد الآت كبيرة للبيانات، أو مزودي خدمة ينبشون في البيانات الخاصة بنا وفي تعاملاتنا عبر الإنترنت، ولم يوجد خوارزميات تشكل ما نقرأ ومتى نقرأه. وجود القليل من المستخدمين كان يعني القليل من التنوع في الآراء واحتمالية أقل من المحادثات، فلم نرى سوى القليل من الاستقطاب المتطرف.
اشتركت الأجيال الجديدة والعاملين فى مجال التمثيل في حركة النشاط الاجتماعي بعد 25 يناير 2011. وساهم عدد أكبر من المواطنين في الأنشطة المتاحة في الأماكن العامة كما شاركوا في العديد من منصات الإنترنت. فظهر حضور جديد لأصوات مختلفة مما أدى إلى حدوث تغيرات بارزة في الحركة بين الشعب وفي طريقة تفاعله مع المحتوى المختلف. في الوقت ذاته تطور مفهوم التنظيم والحشد والتعبير داخل المجتمع المصري، مما ساهم في تقديم إمكانيات جديدة للاكتشاف والنقد.
لم يتغير مشهد النشاط الاجتماعي فقط عبر الأعوام القليلة الماضية، بل أصبح للتنظيم العسكري حضورًا أكبر في المشهد بشكل عام، كما أن ترابط الدولة العسكرية البوليسية تسلم زمام الأمور وأصبح أكثر نشاط. في الوقت ذاته، أحكمت الدولة قبضتها على المستثمرين والعديد من القنوات الإعلامية المختلفة والصُحف الإخبارية. ولم يكن هذا الأمر بجديد في حد ذاته، لكن رقابة الدولة على ما يتداوله الأفراد من أحداث عامة، علاوة على طريقة تفكير الأغلبية المصرية أدت إلى اتجاه أغلب الشعب إلى تجاهل الأحداث المختلفة مما يحدث هنا، فلجأ العديد من المصريون بدافع الخوف أو في محاولة منهم لدعم الدولة إلى غض الطرف عما يحدث من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وتدهور الاقتصاد، وقمع مبادئ الحرية.
وفي السياق ذاته تمكنت الدولة من فرض السيطرة على تدفق المعلومات والأخبار عبر مختلف وسائل الإعلام، بإستثناء قلة بديلة من الأخبار المتداولة عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، ويبقى الحال كما هو عليه: فكانت بداية عرض الأحداث الإخبارية الهامة من انتهاكات، وفساد، وتجاوزات الشرطة والجيش، والفضائح الطبية بطريقة أو بأخرى عبر الإنترنت. وبالرغم من الاستقطاب السياسي المكثف، والتطوير من القوانين القمعية، والمحاكمات التعسفية يبقى كل هذا يختبر حدود جديدة ويزيح الخطوط الحمراء المتعارف عليها.
بالإضافة إلى ذلك، تزايد اهتمام قطاع الأمن بالمشاهدة والاستماع إلى ما نقول ونفعل، مبررًا ذلك بأنها طريقة معرفة فيما يفكر “الآخرون”، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تطرق إلى الاهتمام بتعقب حياتنا وعلاقتنا المهنية والاجتماعية. بمرور الوقت تطورت أساليب المراقبة العامة، والمراقبة المستهدفة. الأمر الذي أدى إلى نشوء علاقات بين الدولة وشركات متعددة الجنسيات تقوم بإنتاج تقنيات المراقبة، في الوقت ذاته ساء استخدام الهيئات الحكومية في الدولة لسلطتها المطلقة وعملت على بناء علاقات مع شركات المحمول والشركات المقدمة لخدمات الإنترنت للحصول على بيانات المستخدمين كما برعت في مراقبة الاتصالات التي تتعدى البنية التحتية للدولة. وبالطبع لا يوجد إجراءات ضرورية للقيام بأى من ذلك فيكفى الآن أن “يريد” ضابط مثل تلك المعلومات. يمكننا الآن قول أن شراء برامج المراقبة المتخصصة وبرامج القرصنة قد بدأ بالفعل، كما تزايد شراء الهيئات الحكومية في الدولة لتقنيات القرصنة التي تعتمد على “إصابة الحاسوب ونسخ البيانات” والتي تستهدف بيانات الأفراد حتى وصل عددها من العشرات إلى المئات.
بالطبع ليست تلك العوامل من المعادلة حصرية على مصر فقط، بل تستخدم المجتمعات الأمنية والاستخبارية في الدولة تلك التبريرات التي تُستخدم في العالم أجمع: ” نحن نحارب التطرف”، “نحن في حرب ضد الإرهاب”، ” ليس لديك شيئًا لتخفيه”، “نحن نراقب فقط الفاسدون”، كما أن الدولة بالطبع مأخوذه بإمكانيات المراقبة المستخدمة من قبل وكالات الاستخبارات العالمية مثل تلك التي يستخدمها تحالف مخابرات الخمسة أعين.
تستخدم المجتمعات الأمنية والإستخبارية في الدولة تلك التبريرات التي تستخدم في العالم أجمع: ” نحن نحارب التطرف”، “نحن في حرب ضد الإرهاب”، ” ليس لديك شيئًا لتخفيه”، “نحن نراقب فقط الفاسدون”.
في مارس /آذار 2011، عندما هاجم الثوار مقر جهاز أمن الدولة في القاهرة، المعروف بالتعذيب والمراقبة، وجد العديد من الناس الملفات الخاصة بهم ونسخ من اتصالاتهم، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا تغير الوعي والإدراك تدريجيًا عن مماراسات الدولة للمراقبة. لكن بكل أسف تعتبر الآن فكرة أننا جميعًا نخضع للمراقبة أضحوكة عامة، وعلى الرغم من ذلك فلم تتغير طرق الاتصالات اليومية أو القواعد التنظيمية لدى أغلب الناس، وقد يرجع هذا إلى الطاقة الثورية أو الشعور الغاضب الذي يتخلل تلك المرحلة.
ومما لا شك فيه أن منذ عام 2011 أخذ إعلام الدولة على عاتقه مسؤولية تطبيع ممارسة المراقبة الاجتماعية ومراقبة أفعال الأخرين إلى جانب شن هجوم على أي رأى قد يكون مختلف أو كما يسمونه “دخيل”، إلى أن أصبح هذا الأمر مقبول لدى الكثيرون. كما يتم باستمرار إصدار قوانين قمعية جديدة فيتزايد الشعور بالمراقبة في حياتنا اليومية، الأمر الذي يؤثر على مجتمع النشطاء وكل من يشارك في حركة التغيير الاجتماعي والنظام الإعلامي.
أصبح اليوم أمر طبيعي لأفراد مجتمعنا أن يفكروا مرتين أو أكثر قبل قول شيء ما أو ليراجعوا متى يمكن قوله أو حتى يتسنى لهم حساب العواقب الناتجه عنه، فهم بذلك يشاركون بدون وعي منهم فيما يسميه الباحثون في مجال الأمن الرقمي نمذجة الأخطار، متأملين أثر اختيارهم على الصعيدين الشخصي والعام.
علاوة على ذلك، أصبح الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية أمر في غاية الصعوبة، فكل منهم يؤثر على الأخر، وعندما يتعلق الأمر بالتعامل مع تغيرات الحياة الإجتماعية تجتاحنا العديد من المشاعر المختلفة، ومما لا شك فيه أن خسارة الكثير من الأصدقاء الذين إما تعرضوا للسجن أو اضطروا للسفر خارج البلاد، يجعلك غير متصل بأصدقائك مما يجعل هذا العمل أكثر صعوبة. ومن المتعارف عليه بين هؤلاء المشاركين في إخبار الأخرين بحقائق ما يحدث هنا أن يتوقعوا الاستدعاء من السلطات الأمنية أو يتم إختطافهم أو يتم منعهم من السفر أو يتم مداهمة مكاتب عملهم وفي أحسن الأحوال يتلقون اتصال مهذب بالتهديد.
لقد شاركت خلال السنوات الماضية في مساعدة العديد من الأفراد والمؤسسات على تقييم المخاطر والتهديدات، بالإضافة إلى مساعدتهم على تطبيق إجراءات مناسبة للحفاظ على الخصوصية والأمن الخاص بهم. كل هذا استرعى انتباهي لمدى تغير فكرة الخطر بعمق خلال الفترة الماضية، وكيفية تعدد تفسيرتنا للمشكلة في حد ذاتها. ومن الواضح أيضًا أن قدرتنا على التقدير أو الوصول للتقييم الملائم بالوضع الحالي هي أضعف من ذي قبل، حيث أنها لا تعتمد على مدخلات أو متغيرات منطقية بشكل كافي أضف إلى ذلك فوضوية الوضع وتغيره المستمر والمفاجئ في أغلب الأحيان.
الشعور بالخوف ليس أمر خاطئ أو مخزى، فنحن جميعًا بشر، لكن الأمر يتطلب جهد ووقت لتحويل الشعور بالخوف إلى طاقة إيجابية للإستمرار والمثابرة.
ومن الأمور التي أصبحت بديهية كيف يعيق الخوف والقلق من قدرتنا على الإبداع ومتابعة أعمالنا وقدرتنا على التخطيط المناسب. فدائمًا ما يكون هناك صراع بين معتقداتنا، والقوة المحركة لنا، والمخاطر والمخاوف التي نشعر بها ونتعرض لها كل يوم. ودائمًا ما أذكر نفسي أن أضع كل مخاوفي جانبًا حتى يمكنني التركيز والتفكير والمتابعة. فلا يعتبر الشعور بالخوف أمر خاطئ أو مخزى، فنحن جميعًا بشر، لكن الأمر يتطلب جهد ووقت لتحويل الشعور بالخوف إلى طاقة إيجابية للاستمرار والمثابرة. ويبقى الاستبداد والقمع يدفعنا على المدى الطويل لأن نصبح أكثر إبداعًا ونفعل كل ما بوسعنا بالرغم من التحديات الفردية التي نواجهها.
وأخيرًا في الدولة الديكتاتورية عندما يصبح كل شيء ظالم “مقبول” وطبيعي في حياتنا اليومية، تظل مهمة نشر المعلومات وإخطار الأخرين بالحقيقة هو الجزء الأكثر حيوية في حركة النشطاء، مهما بلغت صعوبته.
رامي رؤوف خبير تكنولوجي، ومستشار الخصوصية و الأمن الرقمي في مصر. حسابه على تويتر @RamyRaoof.
3 تعليقات
شكرا على الجهود، مقالة جيدة
يسعدنى انها نالت اعجابكم