- Global Voices الأصوات العالمية - https://ar.globalvoices.org -

“نهاية العالم”: رحلة شاعرة من سوريا إلى الجزائر

التصنيفات: الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, الجزائر, سوريا, فلسطين, حروب ونزاعات, صحافة المواطن, فنون وثقافة, لاجئون
Dima-Yousef

“ديما يوسف” المصدر: بدور حسن [1]

نُشرت هذه القصة أصلًا في مدونة [1]“بدور حسن”.

في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، استقرت “ديما يوسف”، وأُمها، وأختيها في العاصمة الجزائرية. قررت أُمها أن العيش في سوريا التي مزقتها الحرب، هي مغامرة حقيقية، حيث أن الأسرة أصبحت غير قادرة على مواجهة المخاطر.

تبلغ “ديما” يوسف 30 عامًا، وهي شاعرة ومُعلمة لغة عربية والثالثة على خمسة أشقاء، ولدت وترعرعرت في مخيم اليرموك للاجئين في الضواحي الجنوبية من دمشق.

تنتمي لعائلة تعود جذورها إلى قرية فلسطينية تُسمى “حوشه” شرق حيفا، حيث كانت القرية ساحة للمواجهات الضارية بين الجيش العربي الحر، و”الهاغانا” القوات الشبه العسكرية الصهيونية في إبريل/نيسان 1948. سقطت القرية بيد منظمة “الهاغانا” في اليوم السادس عشر من ذلك الشهر، حيث أُجبر جميع السكان على الفرار، إلى القرى المجاورة أو إلى لبنان أو إلى سوريا حيث استقر أجداد “ديما” هناك.

تشهد بعضُ الأطلال والمقابر وشجرة النخيل الوحيدة على ما مرت به واحدة من المجتماعات الزراعية السلمية من تدمير شامل، لكن تم إحياء “حوشه” من خلال القصص، والذكريات التي مرت على الناجيين من الجيل الثاني، والثالث من النكبة، وحملات التطهير العرقي من قبل العصابات الصهيونية عام 1948.

عندما ودعت ديما دمشق الوداع الأخير، كانت غارقة في شعور النفور، والفقدان الدائم للأهل والوطن، وهذا كان نفس شعور الذين مروا بنفس التجربة، وغالبًا ما عبر عنه الناجين من النكبة في مخيم اليرموك، وتقول ديما: “لا يوجد في الجزائر انقطاع غير منتظم للكهرباء، أو نقص في الوقود، لا يوجد أية قذائف هاون عشوائية تدمر المدينة، أو نقاط تفتيش عسكرية، وبالرغم من كل ذلك، وبطريقة ما كنت أشعر دائمًا بالأمان في دمشق، وسيعد نكرانا للجميل إذا اشتكيت أو تحدثت عن الحنين إلى الماضي”، وتكمل حديثها قائلة: “أنا محظوظة ببقائي على قيد الحياة، فلدي غرفتي الخاصة، ولكني أفتقدتً كل شئ في دمشق، حتى تلك الأيام الطويلة دون كهرباء”.

وعند مغادرتها دمشق، وضعت “ديما” في حقيبتها كل ما هو له ذكرى خاصة بها، بما في ذلك كتاب قد أعطته لها صديقة عزيزة عليها، لكنها تركت وراءها قلب ممزق إلى اثنين: قطعة تكمن في شوارع دمشق القديمة الخالدة، والآخر لا يزال في مخيم اليرموك، أو ما تبقى منها.

“ديما” بليغة في الشعر، ولاتزال تناضل حتى الآن بالتعبير بالكلمات عن أغلب ما تفتقده في اليرموك، حيث أنها لم ترى اليرموك منذ ثلاث سنوات، وتعرف أنها لن تذهب إليها مرة آخرى أبدًا.

No, not just the streets, the alleys, the houses or my memories that are still floating there. Not just people’s faces, their clear eyes, their raw emotions and their astounding intimacy. These are not the only things I miss about Yarmouk.

Not just my father’s grave, the presence of which I haven’t gotten used to yet. Not only do I miss the things I used to possess, the things that were mine: my home, my family, my friends, my life.

Life! This is precisely what I miss the most when I think about the camp. Life, in all of its noise, its anguish, and its exhaustion. Yarmouk and its people were masterful at imbuing everything around them with life, pulse, warmth and spark.

‘Yarmouk never sleeps,’ this is what anyone who knew the camp used to say. It never slept as though it were scared of missing something. Yarmouk has always been true to this habit. And even when death arrived, Yarmouk stayed awake and missed none of it.

لا..ليست فقط الشوارع، والأزقة، والمنازل أو ذكرياتي التي ما زالت تحلق هناك، وليست وجوه الناس، عيونهم الواضحة، والعواطف الصادقة، والعلاقات الحميمة المذهلة، هذه ليست الأشياء الوحيدة التي افتقدتها في اليرموك.

ليس فقط قبر والدي، فلم أعتاد على وجوده بعد، فلا أفتقد الأشياء التي كنت أملكها فحسب، بل الأشياء التي كانت تعني لي: بيتي، عائلتي، أصدقائي، حياتي.

الحياة ! هذا بالضبط أكثر ما افتقدته عندما أفكر في المخيم، الحياة، فبالرغم من كل الضجيج والكرب الذي يمر به، واستنفاد القوة، كانت اليرموك وشعبها بارعتان في صبغ كل شيء من حولهم بالحياة والنشاط والدفء والأمل.

“مخيم اليرموك لا ينام، ‘هذا ما يقوله أي شخص يعرف اليرموك جيدًا، لا ينام أبداً، كما لو كان خائفًا من شيء مجهول، وكانت هذه عادة اليرموك دائمًا، حتى عندما حلً الموت به، ظل اليرموك يقظ ولم يفقد أي من ذلك.

في عودة لشهر يوليو/تموز 2013، قبل أن تفرض قوات النظام السوري حصارًا كاملًا على المخيم، فرت “ديما” وعائلتها من اليرموك وكان عليها مواجهة الكثير من الخسائر، مثل فقدان طالبات المرحلة الثانوية التي كانت تُدرسهم، كانوا تلاميذها وأصدقاءها في الوقت ذاته، منزلها في المخيم الذي دمره القصف، ووالدها الذي بقى متأثرًا بجروحه، بعد أن أصيب برصاصة من القناص.

d986d98ad8b1d8a7d8b2

التقطت في اليرموك بعدسة “نزار سعيد” المصدر: بدور حسن [2]

تستكمل “ديما” حديثها قائلة: إن الموت على يد قناص أرحم من الموت البطيء تحت الحصار، وفي قصيدة بدون عنوان ترجمة  “فواز عظيم”، توضح “ديما” بأن والدها قد أحزنته مناظر التعذيب التي رأها على أجساد الثوار من الشباب، فلا أحد يستطيع وقف التعذيب، وتقول:

Thank you, bullet that claimed father’s life before it was claimed by indignation!

Thank you, sniper, who performed his ablution with his blood!

Thank you father’s blood, which brought closure to the scene!

شكرًا لك: أيتها الرصاصة.. التي أودت بحياة أبي قبل أن يموت بحسرته.
شكراً لك أيها القناص .. الذي جعل دماء أبي طاهرة.
شكراً لدماء أبي .. التي جعلتنا نرى الموت على حقيقته.

وفي تطوارات أخرى أثناء الأحداث القاسية، أقنع بعض أصدقاء “ديما” أن تفكر بجدية في نشر أول مجموعة الشعرية، ولكنها اُعتقلت من قبل قوات الأمن السورية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، نتيجة شكوى قُدمت ضدها قبل عامين، ذُكرت فيها أنها “ناشطة سياسية” على صفحات فيسبوك تعارض نظام بشار الأسد.

منذ بداية الانتفاضة السورية، أصبحت “ديما” واضحة في دعمها للاحتجاجات السلمية، وتحدثت عن القمع ومع كل ذلك فهي لا تعتبر نفسها ناشطة سياسية على الإطلاق، مُعتبرة أن رفض الظلم والقهر هو شيء طبيعي، وليس شكلاً من أشكال النشاط السياسي. تكرر قولها بأنها ليست بطلة، وما واجهته في السجن هو شيء ضئيل مقارنة بما يواجهه معظم المعتقلين الأخرين، وقالت: “لا تحتاج أن تكون ناشطًا سياسيًا لكي تعبرعن التضامن مع شعب تحت الحصار والقصف.”

وتعتقد “ديما” أنها كانت محظوظة، ليس لأنها لم تتعرض للتعذيب أو الإهانة مثل الآخرين، حيث أمضت أسبوعين في السجن، لكنها تعرف أن بعض الأشخاص يمضون سنوات، أوحتى يموتوا في السجون السورية على أثر قضايا تتهمهم بالنشاط السياسي.

تقول: “قبل عام من اليوم، علمتُ أن هناك أماكن لا تعرف الرحمة أبدًا”، وكتبت في الذكرى السنوية الأولى لاعتقالها في إشارة  للفروع الأمنية التي تديرها الحكومة السورية، على الرغم من تفضيلها الابتعاد عن هذا الجرح الأليم، ففي مذكرات غير منشورة بعنوان “نهاية العالم”، حاولت “ديما”، لأول مرة أن تعبرعن تجربة اعتقالها قائلة: “الآن أعرف كيف تبدو نهاية العالم”.

It is a wall covered with many scribblings and indecipherable words written by the prisoners; a wall filled with pleas and the counting of endless vanishing days; a wall that testifies to the voices of those who try to create noise out of the inaudible screams buried in their throats.

I would open my eyes and close them to a prayer scrawled in black large letters, as if the person who wrote it had tried to release all the darkness and indignation inside her through one last supplication.

On prison walls, so many women left their names behind like stains of blood. With an eyeliner forgotten in one woman’s pocket, the edge of a button, or with their nails, they scratched the harsh face of truth embodied by a prison wall upon which life begins and ends.

Or perhaps, they simply wrote down their names to make sure that they still exist and that their names have not been thrown into oblivion.

تتمثل أيام الاعتقال في الجدار المليء بالعديد من الخربشات وكلمات غير مفهومة كتبها السجناء، فالجدار يشهد على المناشدات وعدد الأيام التي لا تنتهي، يشهد على أصوات أولئك الذين يحاولون الاستغاثة، ولكنها صرخات غير مسموعة.

كلما فتحت عيني وأغلقتهما، وجدت صلوات وأدعية مكتوبة في الزوايا المظلمة، كما لو كان الشخص الذي كتبها يحاول التخلص من كل الظلم والسخط داخل بلده من خلال الدعاء والصلاة.

على جدران السجن، كذلك تركت العديد من النساء أسماءهن خلف بقع من الدم، أو كحل نسته إحداهن وُجدته مصادفة في جيبها، أو زرار فستان، أوبعض قطع من أظافرهن، كشفن عن حقيقة الوجه القاسي التي تمثلها جدران السجن حيث بداية الحياة و منتهاها.

أو ربما، كتبوا أسماءهم ببساطة حتى يعترفون بوجودهم وأن يتذكرهم الجميع، خوفًا من أن تُنسى في غياهب النسيان.

في مذكراتها داخل السجن، تتذكر صرخات المعتقلين أثناء تعذيبهم، فالصراخات مؤلمة جدًا كي يستوعبها قلب واحد وتسمعها أذنان، كما تتذكر كل “الحيل” التي استخدمتها المعتقلات، كي تنجين من هذا العذاب وانتظار الحارس ليعلن إطلاق سراح أحداهن وهو ينادي أسماء المعتقلين، ووصول “حافلة صباح كل يوم” – الحافلة التي تنقل المعتقلين من السجن لتطلق سراحهم، “من موت محقق إلى حياة ممكنة”.

وكتبت عن غضبها عندما قام أحد حراس السجن بركلها في أحد زوايا السجن، وصور ذلك أحد الضباط يُدعى “أبو علي”، دون السماح لأحد أن يبتسم للصورة، “وإن سمحوا لي بأن ابتسم لمرة واحدة، لابتسمتُ لكل هؤلاء السجناء الذي صُوروا للمرة الأخيرة في حياتهم.”

خلال أسبوعي الاعتقال، احتفظ أهل “ديما” بسرية خبر اعتقالها خوفًا من العواقب المحتملة، كما ترددت “ديما” بالحديث عن اعتقالها السياسي، لأنه يعد وصمة عار وخاصة أنها كانت تعمل في القطاع العام، بالنسبة لديما يحمل النفي والسجن الكثير من أوجه التشابه: الغربة، والوحدة، والتشتت، والشعور بأن الوقت لا يمر، وأن حياتها قيد الانتظار.

تجد ديما صعوبة في التحرر من قيود الذاكرة والحنين، لكنها حاولت النسيان بعد إطلاق سراحها من السجن، ولكنها تجد في شِعرها الحر القوة والسلوان، ولكن في حقيقة الأمر، نشرت قصائدها فقط على صفحاتها الشخصية على فيسبوك، ويعني أن شعرها لم يأخذ قيمته المستحقة، ولكن يعود الفضل في ذلك للشاعر “عظيم” الذي قام بترجمة شعرها، ووصلت قصائدها إلى جمهور لم تتوقعه، حيث أخذت عازفة الناي المقيمة في شيكاغو”شانا جوتيريز” أحد قصائدها لتحولها إلى مقطوعة موسيقية.

تعني هذه المقطوعة “سُنجش” الكثير بالنسبة لديما، كما أنها من أكثر المعجبين بالناي، وأكدت بإيمانها بأن لدى الشعر والموسيقى القدرة على إيصال الكثير من المعاني والمشاعر لأنها تبرز الجانب الإنساني للحرب والمآسي بعيدًا عن الأرقام والحسابات السياسية.

في رحلتها، التي لا تزال تتسم بعدم الثبات والاستقرار وتملؤها الخسائر الفردية والجماعية، فهي لا تعرف ما هو آت وعن وجهتها القادمة، فالبعد عن الوطن في الحقيقة لايقاس بالأميال، ولكنه بعدد خفقان القلب، فاليرموك تسكن روحها.

PlayPlay [3]