بماذا أختصرُ قصّة وملحمة ومجزرة ومحرقة حلب، وماذا عسانا أن نكتب، ومن أين نبدأ؟ هل نبدأ من الحصار؟ من الدمار؟ من الأعضاء المبتورة؟ من الخنادق المحفورة؟ من الجروح المفتوحة؟ من الحناجر المبحوحة؟ من تحت الأنقاض أمْ من فوقها؟ من أمام السفارات أم من خلف الشاشات؟
نُشِرت آلاف مقاطع الفيديو كان أكثرها صدقًا وأشدّها عمقًا تلك التي صُوّرت بلا إعدادٍ مسبق، بلا تأثيرات صوتية أو مرئية، بلا فلاتر بلا تلقين ولا أوامر، تلك التي أُخذت على عَجَل من امرأةٍ أو رجل، رافعاً إصبعَيه بلا وَجَل، لا يهمّه من خذَل، لكنّه متسلّحٌ بالأمل.
كان جلّ اهتمام من خرج أن يعلمَ العالَم حقيقة ما جرى، لا يريدون أن يُنظَر لهم كعددٍ مرّ في نشرة أخبار فقد سئموا الأعداد مذ “باتت أيّام الأسد معدودة”. لقد كانوا واعين لأكبر مصائب حلب وسوريا والإنسانية وهي أنّ معالم الجريمة ستُمحى، لسان حالهم والكلمات التي بين سطورهم تقول المدينة سيُعاد بناؤها ونحن سنموت وتندثر رفاتنا، لكن الحقيقة يجب أن يعلمها أبناؤنا، يجب أن يراها جيراننا سكان كوكبنا، إنْ استطاع السفّاحون أن يفلتوا من الجزاء فلا يجب أن يفلتوا من دعاء الشرفاء من كلّ الأديان، على الأقلّ يجب أن نجبر العالَم على الشعور بالخجل أو الخوف من النوم في الظلام.
بلا تحليل عميق ولا تمحيص أو تدقيق نجد أنّ المئة ألف مهَجَّر الذين يخرجون أخيرًا ليسوا من الرعاع، ليسوا تتارًا أو برابرة أو شعوب بدائية، ليسوا آلات طحن طعام حيوانيّة، ليسوا مطبّلي طناجر أو قليلي تربية كما قال السفّاح، بل هم كما قال أسوَد الوجه “مجموعة معلمين وأطباء ومهندسين”، قالها على سبيل التهكّم، لكنّه لم يدرِ أنّه أصاب كبد الحقيقة، لقد علّموا العالَم معنى الصمود واكتشفوا أمراض هذا العالَم المختلّ عقليًّا وأخلاقيًّا، أتحدّى كلّ العالم أن يجدَ خطًأ منطقيًّا واحداً في جميع المقابلات العفويّة التي بُثّت على فيسبوك مع من خرج سواءً كان طفلاً أم كهلاً، رجلاً أمِ امرأة، بخلاف ما يبثّه إعلام النظام وأعوانه رغم أنّهم يحضّرون لقاءاتهم ويدرّبون المواطنين المارّين -صدفةً- بجانب المذيع.
إنّك تجد الثقافة والإيمان والعزيمة في أحاديثهم، وتجد الطلاقة واللباقة، ولا تنسَ أنّ كلّ هذا لن يخفي الألم والحرقة، إنّ الإنسان يسكن في بيتٍ سنة واحدة ويبكي عند خروجه منه لانتهاء عقد إيجاره، فكيف بمن يخرج مرغماً من بيته ومدينته ليسكنها من بعده كائنٌ نجس، هل جرّبت يوماً شعور الشجرة حين تُقتَلَع من أرضها قلعاً وليس قطعاً، سأصف لك شعورها، إنّها تتمنّى لو أنّها قُطعت قطعاً لأنّ ألم القطع أهون بكثير من ألم الاقتلاع، إنّه بالضبط ما تمنّاه الحلبيون والحلبيّات.
امرأة عجوز تقول عائدون رغماً عنكم، وامرأة تلقن ابنها الشهادة وتبشره بالنصر ولو بعد حين، وأطفالٌ يعدون المحتلّ بأنّهم سيكبرون ويعودون لتحرير مدينتهم، مجاهدون على الجبهات يبصقون في وجه القادة المتخاذلون، رجال الدفاع المدني يقودون سيّارات المقدّمة في قوافل التهجير، ليجعلوا من أنفسهم دروعاً للمدنيين حتى بعد الخروج من حلب، إعلاميون يتناوبون على تغطية كلّ لحظة وكلّ شبر. كلّ هذا أثناء الخروج.
قبل الخروج من الداخل كانت هذه البقعة المحاصرة أسخن بقعة على الكوكب، أشهر بقعة على الكوكب، أخطر بقعة على الكوكب، كيف اشتهرت؟ هل جاءت CNN أو BBC إلى هنا؟ أبدًا، لم يكن إلا مراسل الجزيرة، ومئات المغردين بكلّ لغات العالم، هل حصل وأنتجت أيّة بقعة في العالم وهي تحت الحصار نتاجًا أدبيًّا وفنيًّا وعلميًّا كما أنتجت حلب الشرقيّة؟ في هذه الفترة اخترعت آلات لتوليد الكهرباء من الشمس ومن الرياح ومن القمامة، اخترعت غسالات بلا كهرباء، مضادات طيران ليست من إنتاج الولايات المتحدة ولا روسيا، كاسحات ألغام صنعها حدادون ونجارون، في هذه الفترة أبدع الشعب نظام عيشٍ ذاتي، زُرعت الأقبية بالفطر وسُمّنت الأرانب، وحُفرت الآبار، كان لديهم ماء وكهرباء وإنترنت في أوقات لم تكن مثلها لدى حلب الملونة الغربيّة التي تربطها بالعالم وبالعاصمة طرقات بريّة وجويّة وخطوط كهرباء وماء وإنترنت.
في هذا الوقت كان روّاد مواقع التواصل الاجتماعي لا يفتخرون بصداقاتهم مع بريتني سبيرز بل كانوا يفتخرون بصداقتهم مع هادي العبدالله وبيبرس مشعل وبانة العابد، كان هؤلاء وأصدقاؤهم النجوم، وحاول النظام صناعة نجومٍ ليغطّي نور هؤلاء لكن هيهات، فلم يكن الجمهور يتابع نجومه إلا من أجل السخرية منهم.
أيضًا لم تكن الحياة لتتوقف هناك بكل تفاصيلها لكن كانت تتكيّف مع كل تلك الظروف المريرة، كانت المدارس في الأقبية، فلم تقف الدراسة رغم تدمير المدارس على رؤوس الطلاب، كان النظام يستخدم المدارس كممرّات عسكرية بينما كان الثوار يستخدمون الملاجئ والمستودعات كمدارس، كانت حفلات الزواج مستمرة ولم يتوقف إنجاب الأطفال في أقسى الظروف. لم يكن الزواج زواجاً فيسيولوجياً فقط، كانت قصص الحبّ وهدايا الخاطبين ورسائل العاشقين كما لو أنه لا حصار، شموعً وورود، رسائل ومراسيل حبّ، كتابة على الحيطان وحفرٌ على سوق الأشجار لحروف المحبين، وثّق العشاق بعضاً من قصص حبّهم على حيطان مدينتهم، لم يدّخروا فكرةً إلا ونفّذوها ليغيظوا سارقي بيوتهم وأرضهم وأحلامهم، كانت قصص حبهم رسائل تقول الحصار والحرب لم يزِدنا إلا إنسانيّة و مشاعر نبيلة.
نحن لا نحبّ الحياة إلا الكريمة منها. والثورة لم تنتهِ بحلب، الثورة بدأت الآن، الثورة أصبحت جميلةً الآن، لقد انفضّ كلّ الخونة وكلّ الخائفين وكلّ المشككين والرماديين من حول ثورتنا، الثورة لا تفنى ولا تخلق من العدم، لا تفنى لأنّ الثأر كبير ولن يُنسى بسهولة، لم تخلق من العدم لأنّ أنهار الدم لا تشربها الأرض وتكفي لريّ شجرة الثورة عشرات السنين، ولنا في إخوتنا الفلسطينيين أسوة حسنة، ها قد علّقنا مفاتيحنا على صدورنا، وأوراقنا الخضراء بأيدينا ومحال أن ينتهي الزيتون.