يدخل الصحفيون التونسيون داخل نطاق حماية الشرطة، ليس فقط لكونهم مواطنين، ولكن لأن الاعتداء عليهم – بصورة خاصة – جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة محددة. ولكن ما إن تتعلق التغطية الإعلامية بممارسات المؤسسات الأمنية، تتجاهل قوات الأمن ونقاباتهم التي تحظى بالسلطة واجباتهم، ويبدأون فى توجيه التهديدات للعاملين بوسائل الإعلام سواء التقليدية أو الإلكترونية.
وفى ظل تزايد عدد الاعتداءات التي لا يتم العقوبة عليها، يدعم وزير الداخلية والنقابات الأمنية اقتراحاً لمسودة قانون مثيرة للجدل لأنها تزيد من مستوى حماية القوات الأمنية من آليات النقد والمحاسبة.
وقال الصحفي والإذاعي هيثم المكي للأصوات العالمية فى مقابلة عبر البريد الإلكتروني إن بعض هذه الاتحادات تشكل تهديداً حقيقياً لأنها تهدف بموجب القانون لأن يكون لهم سيادة على المواطنين تتمثل فى سلطات مطلقة، وحرية كاملة فى التصرف دون عقاب.
و فى كانون الثاني/ يناير الماضي تعرض المكي لمثل هذه الانتهاكات حين استضاف هو وأبوبكر بن عكاشة عضواً من نقابة الصحفيين على إذاعة موزاييك إف إم لمناقشة رد فعل الحكومة العنيف تجاه الاحتجاجات التي اندلعت فى الشوارع اعتراضاً على إجراءات التقشف؛ وتعرُض الكثير من الصحفيين للمضايقات والاحتجاز أثناء تأدية عملهم.
وفي اليوم التالي أطلق وحيد مبروك السكرتير العام لنقابة قوات الأمن الداخلي فى منطقة قفصة على المكي وبن عكاشة اسم ” بكتريا الإعلام” في منشورات كتبها على فيسبوك وأضاف أن: “ما تبثه إذاعة موازييك ما هو إلا سم ينشرونه فى مجتمعنا”، وأضاف ”أصابكم الله بمرض مزمن” داعياً التونسيين لمقاطعة البرنامج.
و لم تكن المنشورات هى الحالة الوحيدة التى لفتت الانتباه للمضايقات التى يتعرض لها الصحفيون من قبل منفذي القوانين حيث صرح محمد يوسفي، الكاتب العام المساعد بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين المكلف بالحريات الصحفية للأصوات العالمية قائلاً: “فقد قمنا برصد خطابات خطيرة ومواقف وبيانات تحريضية ضدّ الصحفيين وهيكلهم النقابي حيث تمّ استهدافنا بطريقة تنطوي على شيطنة واضحة“.
وأشار يوسفي إلى مثال آخر يتورط فيه نقابة قوات الأمن الداخلي فى مدينة صفاقس التى تبعد نحو 270 كم عن العاصمة التونسية، حيث وصف منشور على صفحة النقابة الصحفيين بالخونة بعد تصريحات النقابة ضد سياسات وزير الداخلية المتعلقة بحرية الصحافة، كما أهان نور الدين غطاسي الصحفيين ،وهو المتحدث باسم قطاع الصحفيين، على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، وتمادى في ذلك داعيًا رجال الشرطة إلى الأعتداء علىهم قائلًا ” الداخلية برجالها يبولوكم الدم، ويحبلوا الذكر قبل الأنثى”.
ولهذه التهديدات تأثير مروع على حرية الصحافة فى تونس، خاصة فى الوقت الذي يطرح فيه الصحفيون ومجموعات حقوق الإنسان والنشطاء الأسئلة حول الانتهاكات التى يرتكبها ضباط الأمن، بعد أن انتشر على الإنترنت مقطع فيديو يظهر فيه ضباط شرطة يلاحقون ويعتدون على أخوين عقب انتهاء مباراة فريق كرة السلة الذي يشجعانه، كما غرق أحد مشجعي الفريق التونسي الأكثر شعبية فى قناة مائية أثناء مطاردة الشرطة له في بداية أبريل الماضي.
هل تهدد النقابات الأمنية الديمقراطية وحقوق الإنسان في تونس؟
بعد أيام من سقوط بن علي في كانون الثاني/ يناير 2011، بدأ أعضاء القوات الأمنية التونسية في التظاهر بالشوارع، والدخول في إضرابات عامة في سائر أنحاء البلاد مطالبين بالعديد من المطالب والتي من ضمنها الحق فى إنشاء نقابة. وافقت السلطات المؤقتة على مطالبهم وتم إنشاء نقابة قوات الأمن الداخلي في آذار/ مارس 2011، وفي أيار/ مايو من نفس العام تم تعديل قانون قوات الأمن الداخلي للسماح للشرطة بإنشاء نقابات خاصة بهم.
ومن هنا بدأت معظم الهيئات التابعة لوزارة الداخلية في تأسيس نقابات خاصة. فبالإضافة إلى النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي، تشكل نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل والاتحاد الوطني لنقابات القوات الأمنية التونسية وأصبح لكلٍ منهما فروع إقليمية.
وأثبتت هذه النقابات قوتها التي تخطت القانون ووصلت إلى درجة تحدي القضاء، ففى 26 شباط/ فبراير الماضي اعتدى 50 عضو من أعضاء نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل على محكمة بن عروس – في ضواحي تونس الجنوبية – للمطالبة بالإفراج عن 5 من ضباط الشرطة المتهمين فى إحدى قضايا التعذيب، ودعا قادة الاحتجاج صفوف الضباط للاحتجاج داخل المحاكمة ملوحين بأسلحتهم غير مهتمين بتهديد أمن المحاكمة.
وتم تسليط الضوء على ممارسات وانتهاكات الشرطة بعد حادثة بن عروس حيث قال 16 من مجموعات حقوق الإنسان المحلية والدولية في رسالة عامة مشتركة أن ما حدث مؤشر على سيادة فكرة الإفلات من العقاب فى تونس وطالبوا الحكومة بإنهاء عدم محاكمة القوات التونسية على انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
تقييد حرية التعبير لحماية القوات الأمنية من الاعتداءات
وحذر يوسفي أن ”خطابات الكراهية وحملات الشيطنة والتحريض ضد الصحفيين تهدّد حرية الصحافة بشكل مباشر وهي قد تجعل السلامة المهنية والجسدية للعاملين في القطاع في خطر كما يمكن أن تؤسس لثقافة تتغوّل فيها الرقابة الذاتية على حساب الحريات الصحفية وحقّ الجمهور في المعلومة”.
وواصل قائلاً: ”بممارساتهم المليشياوية”، تحولت بعض النقابات الأمنية ”إلى أذرع تابعة للوزارة وللفيف من قياداتها يراد من خلالها استهداف القطاع الاعلامي”.
كما أنه ليس من الصعب فهم العلاقة بين ممارسات النقابات الشرطية وسياسات وزارة الداخلية .
وبعد كل ذلك، تدفع الوزارة والنقابات بمشروع قانون لحماية القوات الأمنية من الاعتداءات. حيث يقيد المشروع – فى حالة تطبيقه – من حرية الصحافة والتعبير ويجرم المحتوى الذي قد يُعتبر تشويهاً للشرطة، ويمنع تسجيل أو تصوير أي شيئ داخل مقرات الأمن والجيش أو في مواقع العمليات العسكرية والأمنية بدون تصريح.
وهاجمت الجماعات الحقوقية المشروع أيضاً لاحتوائه على بنود تحمي الشرطة من المسؤولية الجنائية لاستخدام القوة المفرطة و/ أو المميتة لصد الهجمات على منازلهم، ومركباتهم والمواقع الأمنية والشرطية، وأماكن تخزين الأسلحة والذخائر التابعة للجيش.
و على الرغم من مرور ثلاث سنوات على عرض المشروع على البرلمان إلا أنه لم يتم تطبيقه حتى الآن حيث أعرب العديد من الأعضاء عن قلقهم من تأثيره على الحريات وهو ما أغضب النقابات الشرطية خاصة بعد طعن ضابط شرطة بسكين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، مما دفعهم للتهديد بالتوقف عن توفير الحماية الشخصية لأعضاء البرلمان ورؤساء الأحزاب إذا لم يتم التصديق على القانون خلال فترة أسبوعين. وكتب شاران غريوال الباحث فى مجال التحول الديمقراطي في الشرق الوسط أن هذه التهديدات بمثابة ابتزاز في مقالةٍ عن الحاجة إلى التحكم في هذه النقابات.
وفي كانون الثاني/ يناير 2018، كرر وزير الداخلية لطفي براهم أمام لجنة الدفاع والأمن في البرلمان مطالب الوزارة بوضع إطار قانوني لحماية القوات الأمنية والمسلحة بعد أن استأنفت اللجنة التشريعية للبرلمان مناقشة المشروع بعد أن دعت مجموعات حقوق الإنسان والنقابات الأمنية لتقديم ومناقشة توصياتهم.
يكاد الإفلات من العقاب أن يصبح قاعدة
وفي الوقت ذاته، ترى نقابة الصحفيين أن السلطات لم تبذل الجهد الكافي لمعالجة مشكلة التهديدات التي يواجهها الصحفيون، مما يدفع المسؤولين إلى عدم أخذ المسألة في الاعتبار. وقال يوسفي إن وزير الداخلية “رفض مبدأ الحوار” كما ”لم يكلف نفسه عناء فتح ملف التجاوزات النقابية”، وأضاف أن “النقابيين الامنيين الذين تورطوا في هكذا ممارسات هم في نهاية الامر من المنضويين تحت سلطة وزارة الداخلية كأعوان وموظفين ولابد من محاسبتهم” .
ويعتبر الصحفي موظفاً عمومياً طبقاً للمادة رقم 14 فى المرسوم الصحفي لعام 2011 وبناءً على ذلك يواجه أي شخص يقوم بتهديده أو الاعتداء عليه بأي صورة عقوبة بالسجن لمدة قد تصل إلى عام، كما تنص المادة 125 من قانون العقوبات على دفع غرامة 120 دينار تونسى ( 47 دولار أمريكى). وعلى الرغم من تحرير العديد من الشكاوى وإجراء الكثير من التحريات إلا إنه لم تتم إدانة أي عضو من القوات الأمنية أو من نقاباتهم إلى الآن.
إفلات القوات الأمنية من العقاب
وثقت دراسة أجرتها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين عام 2018 25 شكوى تم التقدم بها من قبل الصحفيين من ضحايا هذه الانتهاكات للقضاء.
وظل حوالى 44% من الشكاوى فى مرحلة التحقيقات الأولية حتى وقت نشر الدراسة في شباط/ فبراير الماضي، مما جعل نتيجة الاستطلاع الذي تم إجراؤه على الصحفيين تظهر أن 93.4% منهم يعتقدون أن الإجراءات القضائية بطيئة في معظم الأحيان.
بينما قال 64.4% من الصحفيين المشاركين في الاستطلاع والذين تعرضوا لاعتداءات من قبل القوات الأمنية إنهم لم يتلقوا أي اعتذار من قبل الشرطة أو وزير الداخلية، فى الوقت الذي يرى فيه 4.5% فقط من المشاركين أنه تمت معاقبة الجناة إدارياً.
ويشكك الصحفي حسام المكي فى جدية عملية المحاكمة حيث قال للأصوات العالمية إنه لم يتفاجأ بعدم تلقى أى رد بشأن الشكوى التي قدمها.
بينما لم يتضح بعد ما إذا كانت التحقيقات التي بدأها النائب العام فى صفاقس بالتحقيقات ضد غطاسي الذي قام بتهديد الصحفيين بالإغتصاب ستؤدي إلى أية إدانة أم لا بعد أن تمت إقالته مع ثلاثة ضباط من النقابة التي تمثل القوات الأمنية الداخلية بسبب المعاملة غير الأخلاقية للآخرين طبقاً لبيان للنقابة الذي تم نشره فى الخامس من شباط/ فبراير الماضي. ولم يرجع البيان سبب القرار إلى الاعتداءات على الصحفيين.
وحذر يوسفي أن الانتهاكات التي ترتكبها القوات الأمنية ونقاباتهم ”تكاد تتحوّل إلى قاعدة من الضروري عدم التطبيع معها”.