قد يكون الحديث عما تعنيه الهجرة أمرٌ صعب، إلا أن بعض الأشخاص تمكنوا بفعل الزمن والبعد من رؤية الصورة الكلية للهجرة بوضوح بدل النظر إلى أجزائها منفردة؛ فكل هجرة هي قصة فريدة من نوعها، لكن هذه القصص مرتبطة فيما بينها بأشياء تتجاوزها وتجعلها شبيهة بقصص الحياة الأخرى. هل ستكون هذه النصيحة مفيدة لأي شخص يَهِّمُ بمغادرة منزله أو للذين غادروها بالفعل؟ أي كلام لن يكون كافيًا لمواساتهم ونصحهم، فلا أحد على أهبة الاستعداد للرحيل.
في فنزويلا التي غادرتها، كنت جزءًا من قصة تشاركتها مع مجموعة كاملة من أشخاص لم يطالبني أحدهم بأي تفسير أو إيضاح؛ فالإيماءات والعادات اليومية والأخطار والماضي والآفاق المستقبلية، حتى عندما كان هذا المستقبل مشوبًا بعدم الاستقرار السياسي، كلها كانت مقروءة ومفهومة دون شرح، ولأن الهويات الفردية والجماعية كانت ضمنية في جميع أنشطتنا اليومية لم أسأل نفسي يومًا “من أنا” أو “من هم”. في ذلك الوقت، لم يكن معدل الهجرة الفنزويلية قد وصل إلى المستويات المذهلة التي نشهدها اليوم، وكانت فكرة الرحيل ما تزال تحتفظ بلمسة من الرومانسية؛ فالرحيل إلى مكان بعيد كان يحمل في طياته عيش رغيد تحياه في ذلك البلد الجديد.
لم يكن الفنزويليون المقيمون في فنزويلا يفهمون أولئك الذين كانوا قد بدأوا حياة جديدة في المنفى عام 1999 كثيرًا، فلم يكونوا يتقبلون شكاوي المهاجرين من أوضاعهم المعيشية الجديدة، وكانوا قد بدأوا يعانون في الوقت ذاته من ما يُعرف اليوم بأسوأ أزمة سياسية واقتصادية وإنسانية في التاريخ فنزويلا المعاصر. لهذا، فقد المهاجرين حقهم في التعبير عن أنفسهم حول هذا الموضوع: فكان بُعدهم والصعوبات الناجمة عن التغييرات المعيشية التي يواجهونها، والتي لم تكن تعتبر مقبولة، سببًا في تقزيم آرائهم السياسية المتعلقة ببلدهم. حيث كان الاعتقاد بأن بلدًا جديدًا قدم حياة خالية من الصعوبات الحقيقية، على الأقل مقارنة بالصعوبات التي يواجهها هؤلاء في فنزويلا، قد ملأ خيال أولئك الذين تركوهم وراءهم، كما لم تعتبر البلدان التي تستقبل هؤلاء المهاجرين أن نقد القادمين الجدد قابلٌ للنفاذ، حتى أنهم كانوا أقل قبولًا بهم كفاعلين سياسيين حقيقيين.
آخرون، وقائع غريبة وعوالم لا تُختَرق
عندما وطئت قدماي أرض الولايات المتحدة للمرة الأولى صيف عام 2011 لم أكن أعرف أي شيءٍ من الأشياء التي أتطلع إليها اليوم؛ عدا بعض عبارات التحية وصيغ الاعتذار الضرورية لعدم تحدثي باللغة الانكليزية، لم أكن أعرف حينها إلا بضع كلمات. (واستدعاء أصدقائي الذين كانوا لا يزالون في فنزويلا لأبوح لهم عما يدور بخلدي لم يكن خيارًا مطروحًا) لذلك كان لا بد لي من الاستعانة بزوجي، لإنشاء علاقات جديدة، في كتابة وقراءة وترجمة ما أقوله للآخرين ومن ثم ترجمة ما يقوله الآخرون لي.
باختصار، بعمر السادسة والعشرين كنت قد أصبحت أميّةً تعتمد اعتمادًا كليًا على زوجها للتواصل، ودفعني الخوف إلى حبس نفسي في المنزل لساعات لا نهاية لها أقضيها في عزلةٍ تامة؛ فعندما يغادر المرء بلده الأم، يمكن لأي حادثة تافهة تحصل أثناء احتكاكه بهذا العالم الخارجي الغريب أن تحبطه وتحطم معنوياته وتغرقه في أعماق انعدام الأمان مهما كان شأنه.
الاختباء كان أحد الخيارات المتاحة أمامنا، وهذا بالضبط ما فعلته لفترة طويلة.
خلال فترة احتجازي هذه، أصبحت نوافذ منزلي كاميرتي المفضلة؛ فقد كانت هذه الفتحات الجدارية الواسعة تمنحني فرصة الاقتراب من هذه الحركات الاجتماعية التي كانت باعتقادي لا تُخترق. إذ إن جزء من سحر مراقبة الآخرين يكمن بالأسئلة التي يثيرها هذا الالتقاء بالواقع الغريب كما أن طبيعة الأجوبة المنبثقة عن هذه الأسئلة تطرح مزيدًا من الأسئلة التي لا إجابة لها.
اكتشفت، من خلال المراقبة والتساؤل والتفاعل، أن الأشخاص الذين كنت أراقبهم كانوا كلهم مختلفين عن بعضهم البعض للغاية، وبينما كان هذا العالم الزاخر بالاختلافات يزدهر ويتوسع، كانت هويتي الشخصية تضمحل وتتلاشى؛ فلم أكن أشعر بأنني أنا نفس الفتاة، تلك التي أتت من مدينة باركيسيميتو (فنزويلا)، بل كنت أشعر أنني شخص أتى من فنزويلا فحسب. حتى أنني كنت مدرجة في فئة بقدر ما هي جديدة بقدر ما هي غير مفهومة: كنت أمريكية-لاتينية، أي لاتينية وهي تسمية يفترض بها أن تظهر عدم وجود فرق بين شخص من تييرا دل فويغو (أرض النار) وشخص من مدينة خواريز في المكسيك.
لكنني خرجت من كل هذا بشيء: فقد أدركت وبشكل شبه مؤكد أن الفنزويليون سواء إن كانوا متواجدون هنا أو هناك، والأمريكيون أي كان المكان الذي أتوا منه، لا يتخلون عن قصصهم أو عما يخلفه لقائهم بصورة أو مصور. هذا ما كنت قد تعلمته عندما قررت التوقف عن مراقبة الناس من نافذتي والخروج لأول مرة إلى الشارع بصحبة كاميرتي التي لم أتركها منذ ذلك الحين.
والآن لا تفارقني كاميرتي أينما ذهبت.
قصاصات من العالم
في فعل التصوير البسيط هناك خرقٌ ما، فالصورة الملتقطة غنيمة صغيرة للص تافه وشقي، يصبح صاحب جزء من عالم جُمد. حيث تضيق فضاءات الشارع وتصبح كل الحركات مهمة، لا لمعرفة الناس الذين كنت أريد الفرار منهم، بل على العكس، بغية إعادة تصنيفهم وجمعهم وفهمهم عندما أعيد مشاهدة الصور التي التقطها نهارًا في هدوء الليل.
أنا التي بقيت محتجزة لعدة سنوات، وجدت في نفسي فجأة الشجاعة اللازمة للخروج ومواجهة الأشخاص بكاميرتي. عندما بدأت بالقراءة، كانت مشاهد بعض الناس في الشارع تتضمن نصوص قصيرة كانت تظهر على الطريق، وهذا كان بمثابة خلفية أو دعم لتحسين هذه الصور.
حتى عندما كانت مهاراتي في التواصل محدودة جدًا، كان الناس يأتون إلي ويطلبون مني التقاط صورًا لهم. امتلاك هذا النوع من التحكم في ظروف كهذه، ينتمي فيها المرء إلى هذا العالم اللامبالي، شخص ما كان في وقت آخر يمر من أمام نافذتي دون أن يراني، يحدق في عيني مباشرة؛ إنما هي طريقة جديدة لاختبار حقيقة أن تكون مهاجر، كما أنها انتصار صغير بوجه انعدام الأمان الذي يجب أن يعيشه جميع المهاجرين.
وباعتباري فنزويلية، بنيت بنفسي لنفسي ولبقائي على قيد الحياة أيضًا، صورة للولايات المتحدة من خلال كاميرتي. وكانت مشاركة صوري تتيح لي التواصل باستخدام لغة تعتمد على الحركات أكثر مما تعتمد على الصوت.
باستخدام الكاميرا، تعلمت قراءة العالم الجديد. تعلمت الكلام، لكن ليس باللغة الإنكليزية أو الإسبانية بل بلغة التصوير. والأهم من هذا كله، تعلمت كيف أعود محط الأنظار من جديد. كان التصوير هو الجسر الذي اكتشفت من خلاله أنني أنا “الآخر” في هذا البلد، وأن الاختلاف شيء جيد؛ لدرجة أنه لا يوجد أي شيء لا يمكن تصويره، ولا يمكن لأي شيء أن يبرر عدم سرد قصة جديدة.
لمشاهدة المزيد من صور ناتالي هيريرا باتشيكو تفضلوا بزيارة حسابها على إنستغرام