العالم ما بعد كوفيد-19: لا يجب أن تُمليه احتكارات تكنولوجيا المعلومات

كُتِبَ هذا المقال بقلم إريك هويرتا فيلاسكيز، نُشرَ في الأصل على موقع تواصل Comunicares، كما نُشرتْ نسخة معدَّلة منه، بإذنٍ من الكاتب، على موقع جلوبال فويسز.

كانت الأخبار العالمية، خلال وباء كوفيد-19، وخاصةً المتعلقة بقطاع الاتصالات الذي أعمل به، تكشف عن الوضع الجديد لعالم ما بعد كوفيد، وعن الدور البارز فيه لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT). ويرجع ذلك؛ إلى الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي، المُتمثِّل في الرصد والمراقبة، وهي الجوانب الأكثر رعبًا المتعلقة بهذا الدور.

بدا أننا قادرون على النجاة واستكمال حياتنا بفضل أمازون، أومن خلال تقنية التتبُّع المدهشة المُزوّدة بها هواتفنا المحمولة، والتي عبرها يتم رصد كل تحركاتنا. وبالطبع ساعدت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) أطفالنا، على مواصلة الدراسة عبر الانترنت، سواءً كانت تُعدْ تجربة مثمرة أم لا.

لكن ليس بالضرورة أنْ يكون العالم الجديد، ما بعد كوفيد-19، تحت سيطرة تكنولوجيا المعلومات، وإعلاناتها عن فوائد الجيل الخامس 5G، وتابعًا للذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات الضخمة. لكن من الممكن خلق عالمًا جديدًا يُساعدنا على الاقتراب من الطبيعة. يُعتبر السكان الأصليين والمجتمعات الريفية مُعلِّمين بارعين في ذلك، ولديهم إمكانية مساعدتنا على تحقيق تلك الرؤية.

من دواعي سروري أنني أعمل مع مجتمعات السكان الأصليين، لكوني متواجدًا في منطقة ريفية في المكسيك، خلال الحجر الصحي المفروض عالميًا. وأرى أن قدرة تلك المجتمعات على التكيّف مدهشة، ليس بخصوص الوباء، ولكن تأقلمهم على مواصلة الحياة خلال الحجر الصحي والحصار الذي فُرِض نتيجةً للوباء. فهم يزاولون أنشطتهم اليومية دون تغيّرٍ إلى حدٍ كبير، (باستثناء منع دخول الوافدين إليهم من الخارج).

صورة لتلك المجتمعات في سانتا ماريا يافيتشي، أواكساكا، المكسيك. حقوق الملكية لـ إريك هويرتا فيلاسكي.

عندما يُعبّر بعض الصحافيين عن قلقهم إزاء عدم قدرة أطفال تلك المجتمعات، على الولوج إلى عالم الانترنت ومواصلة تعليمهم المدرسي. أُفكر حينها في كيفية توضيح وجهة نظري؛ وهي أنّ ما يثير تخوفاتهم يُعدْ حقيقةً فرصة رائعة لهؤلاء الأطفال، تُساعدهم على تعلّم المعرفة الحقيقية والضرورية للحياة، والتي يمكنهم اكتسابها من مجتمعاتهم. مثال على ذلك؛ تعلّم كيفية زراعة ميلبا (حقل مزروع)، وفهم الطبيعة وقوانينها، وفن الحفاظ على الإقليم.

قدرة تكيّف تلك المجتمعات مع العزل المفروض نتيجةً للوباء، ليست معتمدة على أنظمة الاتصالات. فَهُم لديهم في معظم الحالات أسوء شبكة انترنت. لكن ترجع قدرتهم في التكيّف إلى أسلوب حياتهم. وقد كنا جميعًا في الماضي أقرب إلى اتّباع تلك الأساليب. لكن مع الأسف تم إبعادنا عنها، بل استطعنا أيضًا إقناع مجتمعات كثيرة بالتخلي عنها.

على حد علمنا حتى الآن، يرتبط مرض كوفيد-19 الناتج عن فيروس كورونا ارتباطًا وثيقًا، بإخلالنا بالنظام البيئي والانقضاض على الحيوانات واستهلاكها مثل الخفافيش، التي تُعَد عنصرًا حيويًا في عملية التلقيح.

زادت معدلات تدمير الغابات والأدغال في السنوات الأخيرة. فقد تخلى قادة العالم مثل؛ رئيس البرازيل والولايات المتحدة، عن الخطابات التي تنادي بحماية البيئة، والتي كان تقديمها يُعتبر على الأقل من باب الكياسة. وذهبوا إلى أبعد من ذلك خلال دعمهم، مرات عديدة وبوضوح، للاتجاهات والسلوكيات التي تُسْهِم في إهلاك الغابات والأدغال، مثل؛ عمليات قطع الأشجار والتعدين ومَد خطوط الأنابيب واستخدام تقنية التكسير الهيدروليكي ومشاريع الطاقة غير الخادمة.

ما أحلم به هو عالم جديد يُؤسِّس نهضة حضارية، تكون من أولوياتها حفظ الحياة البرية وكذلك بناء المحميات للحياة البرية، ووضع معايير بناء تتضمن نسب عالية من المساحات الخضراء أو تَضْمَن حِفظ الطبيعة. مما يعمل على إرساء نموذج تكون الحياة فيه هي الأولوية، ولكن ليس فقط في السياسات، بل أيضًا في العالَم الأكاديمي وكليات الهندسة والهندسة المعمارية. علاوة على ذلك، إرساء ذلك النموذج في المدراس والإعلام، حتى يعمل على ولادة فكر ونظام اجتماعي جديد يعْني بالنمو، حيث يكون حفظ النظم البيئية للمجتمعات أعظم شأنًا من صناعة التعدين والتوسُّع الحضري العمراني وازدهار قطاع السياحة.

غابة في غواتيمالا. حقوق الملكية لـ ميليسا فيدا، أُستخدمت بإذن.

شيء آخر تعلمته من السكان الأصليين، وهو الإنتاج الغذائي المستدام. بينما يزداد في المدن انفصال الناس عن مصادر أطعمتهم، مما أدى إلى ضعف ثقافة الطهي. ونتيجةً لذلك، أصبح لدينا أنظمة غذائية أقل تنوعًا أو مكررة ومُعالَجَة، وتحتوي على الدهون التي تُسبب السمنة وأمراض السُّكّري وارتفاع ضغط الدم. وقد كانت تلك الأمراض، خلال الوباء في المكسيك، لها من التأثير الحاسم في ارتفاع معدل الوفيات بعد الإصابة بالفيروس.

ما أتخيله في العالم الجديد هو انتشار الحدائق الحضريّة في كل حي، حيث يقوم الناس بطلب قطعة أرض للزراعة فيها وإنتاج غذاء مستدام، وذلك في حالة عدم تواجد مساحات كفاية داخل منازلهم. وقد قمت بالفعل بزيارة حدائق مماثلة في واشنطن وستوكهولم، ويقيني أنّ وجود مثل ذلك، من تخصيص مساحات أخرى شبيه في مدننا، سيكون مصدر سعادة للناس.

من المهم للغاية أنْ يكون لدى العاطلين عن العمل القدرة، كحدٍ أدني، على إطعام أنفُسِهم. لأن هناك دراسات تتوقع خسارة نسبة 47% من الناس لوظائفهم في الولايات المتحدة، وحوالي 70% في دول مثل الهند وتايلاند، ويرجع ذلك إلى التطور في الذكاء الاصطناعي ونظم الأتمتة خلال العقود التالية.

كما أتخيّل إعادة تقييم للدور الذي تلعبه المساحات الزراعية المجاورة للمدن، من أجل حمايتها من التوسع العمراني والإقرار بأهميتها الاقتصادية والثقافية، باعتبارها المصدر الأساسي للغذاء في المدن.

حديقة حضريّة في سان دييغو، الولايات المتحدة. حقوق الملكية لـ أوزبورنب/فليكر نَسب المُصنَّف – الترخيص بالمثل 2.0 عام

يشتمل جانب آخر في الرؤية الجديدة للعالم ما بعد كوفيد-19، على تغيير جذري في بنية التعليم، والذي ناله النصيب الأكبر من الخسائر خلال الوباء. وبينما نحن هنا في المكسيك نتطلَّع إلى تعليم أفضل من خلال زيادة عدد ساعات الدراسة، اتجهت دول الشمال (البلدان النوردية) إلى تخفيض عدد ساعات العمل والدراسة؛ حتى يتثنَّى لهم قضاء وقت أطول مع أسرهم، وقد كان توجهًا ناجحًا أدى إلى زيادة مستوى التعليم.

كما أتصوّر أنْ يكون التعليم أقل تكدُّسًا مما هو عليه الآن. منهجية تعليم تُدرك أهمية المعرفة الواسعة الموجودة في مجتمعات السكان الأصليين، فتُفرِغ لها مساحة وتُضمِّنُها في مناهجها ليَسهُل تَعلُّمِها. كما أتخيّل مدارس أقل تنفيرًا؛ تُنشئ حوارًا يعمل على تبادل الثقافات وإثرائها، بدلًا من تطبيق منهجية التلقين وفرض المعلومات.

أخيرًا، أرى أنّ العالم الجديد يحتاج إلى أسلوب معماري مختلف. وهو درسٌ آخر تعلّمته من المجتمعات الريفية والسكان الأصليين، مُتعلِّق بطريقة عيشهم حيث يملكون مناطق حضريّة وأراضي مزروعة. فقد وجدتُ أنّ مساحات منازلهم صغيرة بينما كانت الباحات والأفنية الداخلية كبيرة، إلى الحد الذي يسمح بزراعة الخضروات فيها وتربية الحيوانات ولعبْ الأطفال. ولذلك يمكن أن يكون الإغلاق العام في مثل تلك الأماكن تجربة بهيجة بحق، آخذين في الحسبان أيضًا وجود أراضي زراعية، كما ذكرتُ سابقًا.

حدائق مخصصة لزراعة الخضروات. حقوق الملكية لـ كارلوس زامبرانو/فليكر/ نَسب المُصنَّف، غير التجاري-بلا اشتقاق 2.0

على النقيض تمامًا، نشهد تزايدًا للتكدّس السكاني في المدن، بينما أصحبت المنازل الحديثة لأصحاب الدخول المرتفعة بمثابة فنادق، وأشبه بالسجون لأصحاب الدخل المنخفض. بالإضافة إلى عدم توفّر مساحات خضراء في الكثير من المدن، كما أنها مساحات صغيرة للغاية.

في العالم الجديد، ينبغي توّفر مساحات خضراء في كل حي، وزيادة عدد المتنزهات. وعلاوة على ذلك، توفير حماية أفضل للغابات الحضريّة ووضع خطط تمدّن جديدة، تحرص على تخصيص مساحات خضراء في الأراضي المعمورة.

سلطت الأزمة الحالية الضوء على المشكلات الناتجة عن نموذج الحضارة السائدة. وبدلا من استخراج الحلول من النموذج الحالي، والتي لا يمكن استخلاصها من التكنولوجيا، التي تدعم فقط توسّعِها وتُعتبر حاليًا الحل الناجع. علينا التوجه في بحثنا إلى أساليب وطرق العيش التي أبقى على اتّباعِها السكان الأصليين، والتي كانت خيرَ عونٍ لهم؛ فساعدت على بقائهم لآلاف السنين مع حِفظ النظام البيئي.

ابدأ المحادثة

الرجاء تسجيل الدخول »

شروط الاستخدام

  • جميع التعليقات تخضع للتدقيق. الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر تعليق مزعج.
  • الرجاء معاملة الآخرين باحترام. التعليقات التي تحوي تحريضاً على الكره، فواحش أو هجوم شخصي لن يتم نشرها.