لعل مشروع “قناة اسطنبول”، الذي يخطط لإنشاء ممر مائي اصطناعي بطول 45 كيلومترًا ليربط البحر الأسود ببحر مرمرة، هو أكثر مشاريع البنى التحتية الكبيرة طموحًا من بين المشاريع التي يعمل عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ توليه منصبه قبل 18 عامًا – وهو أيضًا المشروع الذي سيسفر عن تبعات ستدوم أكثر من أي شيء آخر، سواء على الصعيد العالمي أم على الصعيد المحلي.
كُشف النقاب عن مشروع تركيا الملقب “البوسفور الثاني” للمرة الأولى في عام 2011، ولم يتلقَّ الضوء الأخضر من وزارة البيئة إلا في شهر يناير/كانون الثاني الماضي. يبرر أردوغان هذا المشروع البالغة قيمته 12,6 مليار دولار بتخفيف ضغط حركة الشحن عن مضيق البوسفور، حيث صرحت السلطات أن هذا الممر المائي الجديد سيسمح بعبور حوالي 160 سفينة يوميًا. بالمقارنة، تتيح قناة السويس عبور 50 سفينة يوميًا، بينما تمر عبر قناة بنما حوالي الخمسين.
غير أن الخبراء يقولون إن القناة الجديدة، في حال إنشائها، قد تبطل مفاعيل اتفاقية مونترو لعام 1936 التي تنظم مضيقي الدردنيل والبوسفور.
فعلاوةً على منح تركيا السيادة الكاملة على كلا المضيقين وضمان مرور السفن المدنية في أوقات السلم، أهم ما في المعاهدة هي أنها تحد من الانتشار العسكري في البحر الأسود وتحصرها بفترة 21 يومًا للدول غير المتاخمة لذلك الجسم المائي، الذي تهيمن عليه روسيا فعليًا.
في هذا السياق، كرر الرئيس أردوغان مرات عدة قوله إن الاتفاقية لن تنطبق على الممر المائي الجديد. هذا يعني من الناحية العملية أن تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، ستكون قادرة على السماح لأي سفن عسكرية بدخول البحر الأسود- بما في ذلك السفن التي تحمل راية الولايات المتحدة.
مع ذلك، لا تقدم “قناة اسطنبول” ممرًا بديلًا إلا عن مضيق البوسفور، إذ لا يزال يتعين على السفن استخدام مضيق الدردنيل الذي يربط بين بحر مرمرة والبحر الأبيض المتوسط ويخضع لاتفاقية مونترو. بسبب ذلك، انتشرت التكهنات على نطاق واسع بأن تركيا قد تنسحب أيضًا من الاتفاقية برمتها، وهو أمر نفاه المسؤولون حتى الآن.
في وقت سابق من هذا الشهر، دفعت هذه التكهنات مجموعةً من رجال الجيش الأتراك السابقين إلى نشر بيان يحذر من مخاطر الانسحاب المحتمل. جاء في البيان أن “اتفاقية مونترو سمحت لتركيا بالبقاء محايدة خلال الحرب العالمية الثانية… ونحن ضد أي نوع من المحادثات والإجراءات التي قد تؤدي إلى فتح مونترو للنقاش.”
كما أثار البيان عاصفة سياسية في تركيا، حيث ساوته أنقرة “محاولة انقلاب”، ورفع المئات من منظمات المجتمع المدني، التي يفترض أنها كلها موالية للحكومة، دعاوى جنائية ضد الأدميرالات السابقين، واعتقل 14 منهم (ولكن أطلق سراحهم بعد فترة وجيزة).
ويشار إلى أن علاقة السلطات المدنية في تركيا بالجيش مشحونة، حيث أن هذا الأخير كان قد خطط لانقلابات عسكرية في عامَي 1960 و 1980- وقام بمحاولة فاشلة في العام 2016.
لكن السيطرة على مضيقَي البوسفور والدردنيل تعود إلى حقبة تاريخية أبعد. في العام 1774، مع معاهدة كوجك كينارجي، منع العثمانيون جميع السفن الأجنبية من الإبحار خارج البحر الأسود، وبالنتيجة عجزت روسيا عن إرسال أسطولها في البحر الأسود إلى اليابان خلال حرب 1904-1905.
في عام 1841، منعت “اتفاقية لندن للمضائق” السفن الحربية غير التركية من دخول المضائق خلال وقت السلم. ثم استُبدلت هذه المعاهدة في عام 1923 بمعاهدة لوزان التي دعت إلى نزع الطابع العسكري عن الدردنيل والعديد من الجزر الأخرى، وفتحت أيضًا بحر إيجه للسفن التجارية.
ثم جاءت اتفاقية مونترو التي، وفقًا لما قاله المؤرخ أنور إيشي في مقابلة مع المونيتور،” تم التفاوض عليها فيما كانت ظلال هتلر تلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى. وقد أرست توازنًا كان يبدو شبه مستحيل، ولم تعادِ لا روسيا ولا الحلفاء، فيما ضمنت أقصى قدر من المكاسب لتركيا”.
يقول مارك بيريني في مقال لكارنيجي أوروبا عن “صندوق باندورا” الجيوسياسي الذي قد يفتحه الممر المائي الجديد:
If the convention will not apply to the canal, it would in practice mean nullifying it and unilaterally creating a new role (and new rights?) for Turkey in maritime traffic regulation between the two seas. Questions abound. Would Turkey set different rules for maritime traffic on the new canal compared to the convention applying to the Bosporus? Would it—in the absence of any international authority or treaty—be free to open or close transit through the canal to certain flags at its sole discretion?
حال عدم تطبيق الاتفاقية على القناة، فهذا يعني عمليًا إبطالها وإنشاء دور جديد (وحقوق جديدة ؟) لتركيا، من جانب واحد، في تنظيم الحركة البحرية بين البحرين؛ والأسئلة كثيرة. هل ستضع تركيا قواعد مختلفة للحركة البحرية في القناة الجديدة مقارنةً بالاتفاقية المطبقة على البوسفور؟ هل، في غياب أي سلطة أو معاهدة دولية، ستكون لها حرية فتح أو إغلاق القناة أمام رايات معينة بطريقة استنسابية؟
الأثر البيئي
لن يخلو الأمر من عواقب محلية أيضًا.
يقول الخبراء إن صلة الوصل هذه، بسبب الفارق بمقدار 50 سم بين مستوى بحر مرمرة ومستوى البحر الأسود، ستؤثر على ملوحة المياه في كلا البحرين وعلى حياة الكائنات الحية التي تعيش فيهما. علاوة على ذلك، سوف تمر القناة عبر بحيرة كوتشوك تشكمجة التي تشكل محطة توقف مهمة للطيور المهاجرة.
في مقابلة مع صحيفة الغارديان، قال سكرتير اسطنبول لاتحاد الغرف التركية للمهندسين والمهندسين المعماريين جواهر إيفي أكجيليك:
The salinity of Black Sea is less than Marmara Sea, and the organic content of Black Sea is much higher than that of Marmara Sea. Some oceanographers say 30 years later there will be no oxygen left in the Marmara Sea. It’s a really harmful and dangerous project.
إن ملوحة البحر الأسود أقل من ملوحة بحر مرمرة، والمحتوى العضوي في البحر الأسود أعلى بكثير من محتواه في بحر مرمرة. ويقول بعض علماء المحيطات إنه بعد 30 عامًا لن يتبقى أي أكسجين في بحر مرمرة. إنه مشروع ضار وخطير حقًا.
قد تشكل القناة أيضًا تهديدًا لبحيرة تيركوس وسد سازليدير الذي يمد اسطنبول بمياه الشرب.
يقول أكجليك لصحيفة الغارديان إنه “في حالة فقدان هذه الاحتياطيات، لا يوجد مصدر مياه بديل على الجانب الأوروبي من اسطنبول. بدلًا من ذلك، سيتعين على الحكومة ضخ المياه من نهر سكاريا الموجود في عمق الجانب الآسيوي”.
في الواقع، رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو من أبرز منتقدي القناة. فقد وصفه في ديسمبر/كانون الأول 2019 “مشروع قتل”، هو يخوض حملة ضده منذ ذلك الحين.
فضلاً عن ذلك، أظهرت نتائج استطلاع واحد أجرته رئاسة بلدية اسطنبول في أغسطس/آب 2020 أن أكثر من 60 في المائة من سكان اسطنبول يعارضون بناء القناة.
مع ذلك، وافقت وزارة البيئة والتحضر على مخطط القناة في 17 يناير/كانون الأول 2020، متجاهلة اعتراضات المجتمع المدني. في مقابلة مع صحيفة الغارديان، قال غوركان أكغون، الذي يرأس قسم تقسيم المناطق والتحضر في بلدية اسطنبول، إن “الطرف الشمالي من اسطنبول هو نظام يدعم حياتنا كلنا. وكل ذلك سيختفي بدون رجعة مع هذا المشروع”.