أقيم في السويد مع زوجي وأطفالي منذ خمس سنوات. خرجت من عدن في منتصف الحرب الطاحنة في مايو/أيار 2015، وسط دوي الانفجارات والصواريخ المشؤومة، حاملة طفلي الرضيع في حضني، وثقل اوجاع بلد بأكمله في قلبي. كانت أصوات الانفجارات تلاحقني كأنها تشدني لترجعني عنوة نحو عدن، مسقط راسي وعشقي الاول.
كان قرار خروجي من اليمن صعباً، ولكني أجبرت على الهجرة بعد مقتل اخي الأصغر، أحمد، بشكل مأسوي، أثناء محاولته إسعاف المواطنين العزل، الذين وقعوا فريسة القصف الوحشي، من قبل الحوثيين أثناء اجتياحهم لعدن في 2015.
لا تزال ذكرى رحلتنا المرعبة في الطريق، خارجين من عدن محفورة في ذاكرتي، ما بين انهيار أمي في السيارة حرقة على مقتل ولدها، وبين منظر الجثث المترامية على جنبات الطريق، وبين المسلحين الحوثيين المراهقين، الذين أوقفونا مرات عديدة في نقاط تفتيشهم بحثاً عن أسلحة أو أشخاص معينين.
أعيش الان في منطقة آمنة ومستقرة، تحظى حقوق الإنسان والحريات فيها باحترام كبير؛ وهي نعمة لا يتمتع بها جميع اليمنيون واليمنيات داخل اليمن، ولا كثير ممن يعيشون في الخارج. بعد مغادرتي اليمن، أصبح تواصلي مع أمي، وأخواتي، وأقاربي، واصدقائي الذين بقوا في اليمن، يشوبه الكثير من القلق والشجن؛ أشتاق لهم، وأتوق إلى شرب القهوة اليمنية معهم، أجد نفسي في حنين للعودة إلى اليمن. بالرغم من انخراطي في المجتمع السويدي – وانا بالتأكيد مندمجة عبر العمل، وتعلم اللغة، والعلاقات الاجتماعية – إلا أن جزءاً أصيلاً مني يبقى يمنياً وينتمي للوطن الذي ولدت، ونشأت، وقضيت معظم حياتي فيه، ولم يدفعني للخروج منه إلا الوضع الأمني والإنساني.
لست وحدي، فاليوم يعيش ما يقارب العشرة ملايين من اليمنيين واليمنيات في الشتات حول العالم. قبل ثورة 2011، كان السبب الرئيسي للاغتراب هو كسب العيش خاصة في دول الخليج التي تحتضن اليوم ما يزيد عن الثلاثة ملايين يمني، معظمهم في المملكة العربية السعودية.
سرعان ما تحولت تلك الانتفاضة الشعبية، المستوحاة من الربيع العربي إلى صراع عنيف، أدى إلى انهيار الامن ونزوح ملايين من المواطنين اليمنيين. نتيجة لتدهور الوضع السياسي والأمني أصبحت اليمن طاردة لأبنائها وبناتها ممن يستطيعون تحمل اعباء السفر، وممن لديهم العلاقات الاجتماعية او الإمكانات العلمية للحصول على تأشيرات في الدول المختلفة.
يتبادر إلى ذهني المثل الذي يقول “رب ضارة نافعة”؛ إذ أن حرية التعبير التي أتمتع بها في السويد أتاحت لي الفرصة بالتفكر كيف منحت الحرية التي يختبرها الكثير من اليمنيين في العالم الغربي فرصة إيصال الصورة الحقيقية لما يحدث في اليمن في المحافل الدولية العالمية، وخاصة النساء اللواتي يعانين من الغبن في اليمن لمجرد كونهن نساء.
أود أن أشارككم ببعض تأملاتي حول دور النسويات اليمنيات والناشطات في الخارج، بالإضافة إلى بعض التحديات التي يواجهنها.
نسويات لدعم اليمن من الخارج
تلعب النسويات والكيانات النسوية اليمنية المتواجدة في العالم الغربي دوراً مهماً وفاعلاً في رفع الوعي، ومناصرة، وإبراز اصوات ومعاناة من لا يستطيعون إسماع صوتهم بحرية في الداخل اليمني، وخاصة النساء اللواتي لا يستطعن التعبير بوضوح عن آرائهن وافكارهن لأسباب أمنية. أصبحت هذه الكيانات أفضل سفراء للوطن في الخارج، في ظل التزييف الإعلامي عالمياً، وضعف السفارات الرسمية.
تنشط الكيانات النسوية في تنظيم الفعاليات الثقافية، والحقوقية، والمناصرة سواء الشعبية عبر المظاهرات، والمعارض، للتأثير على متخذي القرار في الدول التي نعيش فيها بطريقة رسمية أو غير رسمية. كما تقمن بعمل تحالفات مثل التضامن النسوي برعاية مؤسسة مبادرة مسار السلام، وغيرها من التحالفات التي تقوم بحملات مناصرة لحماية النشطاء في الداخل بالذات النساء منهم، ودعم قضاياهن.
لعل واحدة من أهم انجازات القياديات اليمنيات كانت إنتاج خارطة سلام نسوية والتي تمخضت بعد نقاشات مجتمعية في اليمن على مستوى واسع لأول مرة من نوعها لتصبح المشروع الوطني لخارطة سلام الوحيد المنبثق عن مبادرة يمنية بشراكة مجتمعية وبمنظور النوع الاجتماعي.
في الحقيقة، مثلت الإحاطات التي قامت بها الكثير من القياديات اليمنيات في مجلس الامن خير دليل على قوة، ونضج، ووعي المرأة اليمنية، وايمانها القاطع بقضية وطنها، ومحاولتها المستمرة للمساعدة.
تحديات، وتهديدات، وحملات مضللة
تعثر عمل منظمات المجتمع المدني، منذ بدء الحرب في عام 2015 في اليمن بسبب تقليص المؤسسات المانحة للدعم. أدى هذا إلى توقف الكثير من الأنشطة، والمشاريع المتعلقة بحقوق الإنسان، أو برامج الحماية بسبب الوضع الأمني والسياسي، كما أن الدعم المالي توجه إلى أعمال الإغاثة؛ أفضى ذلك إلى تصاعد دور المبادرات النسائية في الخارج، وخاصة بسبب نجاحهن في تكوين شراكات، وتحالفات، ومبادرات مشتركة مع النساء في الداخل، على مدى الأعوام السابقة، والذي أدى إلى سد الفجوة التي سببتها معيقات العمل المدني النسوي في اليمن.
على الرغم من كل ما تحاول الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان إنجازه خارج الوطن، إلا أن الكثير منهن يتعرضن لأنواع مختلفة من العنف الرقمي، والتهكم، والتقليل من أهمية ما يقمن به من أدوار للمشاركة في عمليات السلام وبناء الوطن من جديد.
على سبيل المثال، تتعرض الناشطات اليمنيات في الداخل والخارج للكثير من الحملات الإعلامية المغرضة بسبب نشاطهن السياسي والحقوقي، ويتم اتهام ممن يقمن خارج البلد باتهامات إضافية، متعلقة بالتواطؤ مع الغرب وحتى اتهامات تخص الشرف، متناسين أن ما أنجزنه من مشاريع ما كانت لتتم لو أنهن بقين في اليمن.
سواء كن داخل الوطن او خارجه، وبرغم التحديات لن تتوقف المرأة اليمنية عن العمل. في النهاية، الوطن هو نتاج وحق مشترك لليمنيين واليمنيات في داخل وخارج الوطن، ويجب أن نعمل معاً لإعادة بناءه بطريقة تضمن العيش الآمن والحياة الكريمة للجميع.