- Global Voices الأصوات العالمية - https://ar.globalvoices.org -

إرث مربية مقدسية: رحلة سنية نسيبة خلال 20 عاماً من التعليم في فلسطين

التصنيفات: الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, فلسطين, أصالة, النساء والنوع, الهجرة والنزوح, تاريخ, تصوير, تعليم, حروب ونزاعات, سياسة, صحافة المواطن, لاجئون

كتبت سنية على الصورة أعلاه: “في كلية شميدت بعد مكان البقعة قبل قيام إسرائيل، وأنا في الصف السابع”. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

نشرت هذه المقالة بقلم سارة الدجاني لأول مرة في مدونة خزائن [1]، وهي مؤسسة مستقلة، مركزها القدس، نتيجة تضافر جهود شباب عربي من مختلف العالم بهدف بناء أرشيف مجتمعي يوثق الحياة العربية اليومية. يتم إعادة نشر نسخة محررة هنا بإذن خزائن.

لم تكن سنيّة صالح ناجي نسيبة تعلمُ، قبل أكثر من 70 عاماً، أنَّ احتفاظها بكلِّ قصاصة ورقٍ، وفاتورة مياه، ومراسلة رسميّة، في حقائبها، وبين طيّات الكتب والمراجع، سيقولُ الكثير مما لا نعلم عنه اليوم، حتى بعد رحيلها، عن أماكنَ، وأحداثٍ، وأشخاص، لم تحفظ الذاكرةُ ولا الأيام مكاناً لهم. 

في بيت بديعٍ عند باب الملك فيصل [2]، بجوار المسجد الأقصى [3]، ولدت سنية نسيبة قبل انتهاء الحكم العثماني في فلسطين [4] بعامٍ واحد، وتحديداً في شهر آذار من عام 1916، لتكون الأخت الصغرى لكلٍ من عبد الرؤوف، ويسرى، وزهية، ورؤوفة، ومنيرة، وثلاث إخوة غير أشقاء. فقدت العائلة والدهم “صالح” قبل أن تكمل سنية عامها الثاني، فحملت أمها “عيشة” مهمة إعالة العائلة بمفردها.

بدأت سنية مسيرتها في التعلّم عام 1925، في مدرسة المأمونية [5]، فنجد بين أوراقها شهاداتٍ احتفظت بها من المرحلة الابتدائية، وقد كانت من بين المواد المقرّرة للصف الأول والثاني دروس الخط العربي، والرسم، والأشغال اليدوية، ودروس الطبيعة.

جدول علامات الطالبة سنية نسيبة، عام 1928 من حكومة فلسطين. مدرسة المأمونية. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

اجتازت سنية المرحلة الابتدائية والمتوسطة في المأمونية، وانتقلت بعدها إلى كلية الشميدت للبنات [6] غرب القدس، لتكملَ تعليمها الثانوي فيها، وتصير جاهزةً للعمل في مجال لطالما أحبته وسعت وراءه: “التعليم”.

يحوي أرشيف سنية عدداً من عروض العمل التي بدأت تصلها نهاية الثلاثينيات، لتبدأ أول عملٍ لها في مدرسة المالحة [7] بداية الأربعينيات وتكون من أوائل المعلمات فيها، ثمّ مديرةً لها، واستمرّ الحال كذلك حتى شهر تشرين أول من عام 1947، حيث تركت سنية عملها في المدرسة 9 أشهر قبل سقوط القرية بيد العصابات الصهيونية [8]

توضح المراسلات التي وجدناها في أرشيفها أنّ سنية أُعلمت بتثبيت وداد الأيوبي مديرة جديدة لمدرسة المالحة، ووصلها قرار بتسليم المدرسة، والكتب، والقرطاسية لها، وذلك بعد كلّ الأعوام التي قضتها في التعليم والإدارة هناك، كان هذا قبل عام النكبة [9] بقليل.

رسالة من وداد الأيوبي رئيسة مدرسة بنات المالحة لمفتش معارف القدس عام 1947. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

تحوي أوراق سنية نسيبة مراسلاتٍ كثيرة وملفات مميزة تمدنا ببعض التفاصيل، وتمكّننا من رسم ملامح قرية عادية، نراها اليوم غير عادية أبداً بسبب التطهير العرقي [10] الذي حصل بها مع الاحتلال الإسرائيلي. احتفظت ببطاقة دعوة لحفلة أدبية سنوية فيها عام 1946، تعطينا نظرة عن الفعاليات الثقافية التي أقيمت في القرية في تلك الأيام، بينما لم يعد للمدرسة أي أثر اليوم، ولا نعلم حتى أين كان موقعها من القرية.

دعوة للحفلة السنوية في مدسة المالحة الأميي لعام 1946. مجموعة سنية نسيبة، أشيف خزائن

عيّنت سنية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1947، بعد شهر واحد من آخر وظيفة لها كمديرةً لمدرسة بنات دير غسانة قضاء رام الله [11]، وفي أوراق هذه الفترة، نجد نسخة من رسالة رسمية بعثت بها “لمفتش معارف لواء القدس [12]”، تشكو فيها من وضع المدرسة الصعب، وبُعدها عن مركز القرية، وخلوّها من الحمامات، وتطلب في الرسالة مساعدتها في التوجه لمخاتير القرية لإمداد المدرسة بما تحتاجه.

نجد أيضاً أوراقاً تشرح قيمة ما تمّ بيعه من أشغال الإبرة، والتي كانت واحدة من المواضيع المقررة للطالبات خلال دوامهنّ المدرسيّ، فجلّ ما تصنعه أياديهنّ كان يسلم لمديرة المدرسة، ليباع ويعود ريعه للمدرسة من جديد، وهكذا كانت تساهم المدرسة في توفير دخلٍ مستمرٍّ لها.

رسالة من سنية نسيبة إلى مفتش معارف القدس. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

لم تدم إدارة سنية لمدرسة بنات دير غسانة؛ إذ أن النكبة [9] نسفت كلَّ شيء، وشلّت جوانبَ كثيرة من حياة الفلسطينيين. بعد شهر أيّار انتهى عمل سنية في المدرسة، وعادت إلى القدس، حيث خسرت منزل والدتها الذي كانوا يمكثون فيه كلَّ صيف هي وشقيقتها منيرة مع أمها عيشة، لدولة اسرائيل، التي انشئت حينها، واحتلت كل شيء. كان المنزل في قرية قالونيا [13] كان المنزل على طريق القدس – يافا، وكان يضم حديقة مليئة بأشجار الفواكه. 

رغم كل الخسارات وهول ما جرى، نهضت سنية من جديد محاولةً بناء جيل ما بعد النكبة وهذه المرة من مدرسة بنات بيت ريما قضاء رام الله، [14] تحت إدارة المعارف الأردنية، لكنها انتقلت بقرارٍ آخر لتصير معلمة، ثم مديرةً لمدرسة بنات دير دبوان قضاء رام الله [15]، منذ عام 1949 حتى عام 1954.

تبين مراسلات سنية نسيبة واقع التربية والتعليم في القرى، وحجم العطاء القروي في هذا الجانب، فنعلم أنَّها وشقيقتها منيرة التي شغلت معها منصب معلمة في هذه القرى الثلاثة.  كان أهل القرية يستضيفوهما، بحكم بُعد مسافة كل قريةٍ منهنّ عن القدس وصعوبة الوصول اليوميّ إليها، كما كان مختار القرية يوفر لهنّ بيتاً بقرب المدرسة؛ كنّ يلقينَ في كل قرية حفاوةً، وحباً، واهتماماً من أمهات طالباتهنّ، حسب التناقل الشفوي عنهما.

من بين الوثائق الموجودة، بعض الرسائل التي وصلتها من أشخاص عدة يعملون في سلك التعليم، يشيدون فيها بدورها في إدارة مدرسة بنات دير دبوان ورفع مستواها، ويباركون لها ترقيتها للدرجة العاشرة في مجال التعليم والإدارة من قبل المعارف الأردنية.

رسالة من مفتش معارف اللواء إلى سنية نسيبة تعود للعام 1954. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

بعد عام 1948، سافرت سنية برفقة أمها وأختها منيرة إلى دمشق لزيارة أختها سعاد وابنة أختها علية نسيبة اللتان استقرّتا هناك لعامين بعد النكبة، كما سافرت إلى مصر مع زميلاتها من المعلمات بدعوةٍ من الحكومة المصرية. في عام 1958 قررت أن تبدأ مسيرة مختلفة، هذه المرة مسيرة الحياة العائلية، فتزوجت من فوزي عبد الله الدجاني، حيث كان حملها بعد ذلك سبباً في فصلها وإنهاء مسيرتها المهنية.

غادرت سنية نسيبة الحياة عام 2005 وقد قارب عمرها التسعين عاماً، بعدما عاشت حقباً كثيرة مرّت على فلسطين وكانت شاهدة عليها، من فترة عثمانية وانتداب بريطاني، احتلال إسرائيلي وحكم أردني، ثم سيطرة إسرائيلية كاملة. 

سنية نسيبة في تسعينيات القن الماضي. مجموعة سنية نسيبة، أرشيف خزائن

انتهت قصتها هناك، لتعود بعد كل تلك الأعوام قصاصات الورق الصغيرة هذه، التي تآكل بعضها ومحيت حروف بعضها الآخر، لتقول قصة عن إمرأة فلسطينية، أحبّت التعليم ووهبته عقدين من عمرها، إمرأة كان لها دورٌ فاعل في تعليم عددٍ من فتيات الريف الفلسطيني، وورفع قدرهنّ في المجتمع، وتعزيز مكانة المدارس في القرى. قصةٌ تشرح في تفاصيلها رغبة المجتمع الفلسطيني الجامحة منذ مئة عام أو يزيد في تعليم فتياته والارتقاء والنهوض بهنّ، وعن أهمية دور المرأة في سلك التعليم والإدارة. سيستمر تكريم سنية وإرثها الدائم كمعلمة ومدافعة شغوفة عن تعليم الفتيات كرمز لثبات المرأة الفلسطينية.

*شكرٌ خاص للسيد لجمال فوزي دجاني، الذي زوّدني بأرشيفها وساعدني برواية تفاصيل حياتها.

*ملاحظة: ننشر هذه القصة اليوم بالتزامن مع يوم الأرض – الذي يقام في 30 مارس/آذار من كل عام [16]. يحمل هذا اليوم أهمية كبيرة للفلسطينيين في فلسطين وفي الشتات، لأنه يمثل لحظة محورية في التاريخ الفلسطيني. في مثل هذا اليوم، لقي ستة أفراد مصرعهم خلال احتجاجات ضد مصادرة الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل. بالرغم من ذلك، لا يعتبر هذا اليوم إحياءً لذكرى هذا الحدث المأساوي فقط، وانما هو احتفال بصمود الشعب الفلسطيني أيضاً.