كما تم توضيحه في مقال سابق، لا يوجد لغة ولهجة صينية واحدة، بل عدة. بعد قيام الجمهورية الصينية عام 1912، أصبحت لغة الماندرين، المنتشرة في الشمال الشرقي للبلاد والبلاط الملكي لسلالة “كينغ”، اللغة الوطنية للصين.
اتُخذ القرار خلال عملية تصويت تعسفية من قبل “لجنة توحيد النطق” للجمهورية الصينية الفتية يوم 15 فبراير/شباط 1913، بتواجد 44 ممثلاً، حصل رئيس اللجنة “كاي يوانبي”، عميد جامعة بكين آنذاك، على 29 صوتًا، بينما حصل نائب الرئيس على خمسة أصوات.
بسبب غياب الإجماع وظهور الجهوية خلال عصر أمراء الحرب للجمهورية الصينية (1916-1928)، عرفت حركة تثبيت الماندرين لغة وطنية معارضة محلية، وشجعت الحكومة المركزية للجمهورية المشاركة في “الثورة الثقافية” من أجل “إنقاذ البلد”.
كانت لغة الماندرين تُستخدم، المسماة فيما بعد “بوتونغوا”، لغة مشتركة في الصين، بحيث تتيح للذين يتحدثون لغات صينية مختلفة إمكانية التواصل فيما بينهم. أبقى البلد على التعدد اللساني إلى غاية عشرية 1990، فترة عُين فيها “بوتونغوا”، كلغة التعليم الرئيسية في المدارس.
عبر كثيرون عن شكواهم حول القرار التعسفي سنة 1913، الذي جعل من الماندرين اللغة الرسمية، وقاوموا استئصال لغتهم الأم.
في مقاطعة “غوانغ دونغ” حيث يتحدثون الكانتونية، يعتقد الكثيرون أن لغتهم أكثر أصالة من الماندرين، ويعتقد بعضهم باقتراب كون الكانتونية اللغة الرسمية للصين.
نشأ العديد من الثوار الصينيين، الذين قلبوا أسرة “مانشو تشينغ”، في مقاطعة “غوانغ دونغ”، فمثلاً وُلد الأب المؤسس للجمهورية الصينية، “سون يات سين”، وهو كانتوني من قبيلة هاكا، في “غوانغ دونغ”. شرع في إعداد مخططه لقلب أسرة “تشينغ” في “هونغ كونغ” كعضو في جماعة المنتزعين الأربعة، الناطقون باللغة الكانتونية. بعدما أقام “سون” تحالفه الثوري الصيني في اليابان، واصل استثمار الصينيين ما وراء البحار في “نان يانغ” (الاسم المستعمل لتسمية بلدان الجنوب الشرقي الآسيوي، التي تضم ماليزيا، إندونيسيا والفلبين) بغية تمويل الثورة الصينية، غالبيتهم من متحدثي اللغة الكانتونية والهوكيان.
تعتبر إذن الكانتونية، ولغات أخرى من جنوب الصين، اختيارات لغوية أكثر مناسبة سياسيًا، كون الماندرين كانت اللغة المتحدث بها في البلاط الملكي لأسرة “تشينغ”، والتي خطط ضدها الثوار الصينيون. ربما لهذا السبب لم تتوصل “لجنة توحيد النطق” للجمهورية الصينية للإجماع بخصوص اللغة الرسمية، ورغم ذلك، اتخذت اللجنة قرارًا مُحفزًا لحد كبير، من قبل رئيسها.
بالإضافة للاعتبارات السياسية، من وجهة نظر العديد من صيني الجنوب، تعتبر الماندرين “لغة هان أجنبية” 胡化漢語، لأن شمال الصين كان تحت هيمنة شعوب أجنبية على مدى التاريخ.
استنادًا إلى “يوان تانغفي”، مؤرخ شهير وأستاذ التاريخ، كانت الماندرين لغة هجينة، تتحدث بها شعوب أجنبية في شمال الصين، بمحاذاة بكين. يشير المؤرخ في أحد كتبه حول تاريخ الصين:
北京是遼金元明清五朝故都,除了明朝,遼金元清全是少數民族,所以北京這個地方自古胡漢雜居,胡人統治的時間可能比漢人還要長。
كانت بكين عاصمة سلالة “لياو” من شعب “خيتان” (916-1125)، وسلالة “جين” من شعب “يورشان” (1115-1234)، وسلالة “مينغ” من شعب “هان” (1368-1644) وسلالة “تشينغ” من شعب “مانشو” (1636-1912). عدا سلالة “مينغ”، كانت سلالات “لياو” و”جين” و”يوان” و”تشينغ” تحكمها مجموعات إثنية أقلية مختلفة عن “هان”. بالنسبة لبكين، كان دائمًا يقطن هذا المكان مزيج من شعب “هان” وشعوب أجنبية، فالفترة التي كانت فيها بيكين تحت سيطرة شعوب أجنبية هي من المحتمل الأكثر طولاً مقارنة بالحقبة التي حكمها الصينيون من شعب “هان”.
من جهة أخرى، تعتبر لغات أخرى من جنوب الصين، لاسيما الكانتونية، أكثر أصالة.
حسب الأسطورة، كانت الكانتونية اللغة المتحدث بها خلال سلالة “تانغ” وبقيت في جنوب الصين بعد هروب الإمبراطور إلى “سيشوان” وبعد هروب العديد من المثقفين نحو جنوب الصين بعد ثورة “آن لوشان” (755-763).
لهذا يبدو مستحيلاً تتبع أثر نطق الصينية خلال سلالة “تانغ”، تاريخ الكانتونية هذا تدعمه العديد من الأمثلة التي تبين كيف تستند التعابير الاصطلاحية إلى الأدب الكلاسيكي الصيني، مثل “أحب” والتي يعبر بها “جونغ1-يي3″ (鍾意) بينما المصطلح بالمانديرينية “سي هوان” (喜歡) يعود إلى رواية “حافة الماء” لسلالة “سونغ” في الشمال؛ أو مصطلح “كم” بالكانتونية “جي2-دو1″ (幾多) بينما بالماندرين يعبر عنه بمصطلح “دوو شاوو” (多少) والذي نجد أثره في شعر “لايدي يو”، محظية العرش (虞美人) كتبه “لي يو” (李煜 937-978)، إمبراطور سلالة “تانغ” الجنوبية.
كما قيل بامتلاك أشعار سلالة “تانغ” لقوافي جيدة بالكانتونية، والمثال الذي يذكر غالبًا هو شعر “تسلق برج اللقلق” (登鸛雀樓) من “وانغ زهيهوان” (688-742). تظهر هذه الترجمة كيف أتت قافية الشعر “بوتونغوا” والكانتونية:
白日依山盡 | El blanco sol cae sobre las montañas
黃河入海流 | El rio Amarillo navega hacia el mar
欲窮千里目 | Para ver a miles a lo lejos
更上一層樓 | Ascender otro nivel
الماندرين:
Bái rì yī shān jìn
Huánghé rù hǎiliú
yù qióng qiānlǐ mù
gèng shàng yì céng lóuالكانتونية:
baak6 jat6 ji1 saan1 zeon6
wong4 ho4 jap6 hoi2 lau4
juk6 kung4 cin1 lei5 muk6
gang13 soeng56 jat1 cang4 lau4
مع ذلك، وكما أشار بعض الأكاديميين، تعكس أصالة النقاش ردة الفعل المحلي على الاختراق الثقافي للسلطة المركزية؛ فمنذ المصادقة على القانون حول اللغة الصينية القياسية المكتوبة والشفهية عام 2000، أظهر سكان مقاطعة “غوانغ دونغ” معارضة كبيرة. في غضون عشرين سنة، حدث تغيير استبدال لغة الكانتونية إلى “بوتونغوا” في الاتصالات العامة والمنظمات الحكومية والمطاعم وغيرها على المستوى المحلي.
بالنسبة إلى “هونغ كونغ”، منذ 1999، سطرت حكومة المدينة مخطط تطبيق سياسة تعليم منهج اللغة الصينية “بوتونغوا” بدل الكانتونية، إضافة إلى المنهج الدراسي “بوتونغوا” في مدارس التعليم الابتدائية والثانوية. غير أن المخطط عرف معارضة كبيرة في القطاع التربوي كما يظهر بحث صعوبات التلامذة في فهم عبارات اللغة الصينية المكتوبة بشرحها بلغة “بوتونغوا”. ذُكرت أصالة الكانتونية كحجة رئيسية ضد سياسة توحيد اللغة. عُلق المخطط إلى غاية عام 2008.
بالنسبة لسنة 2020، غيرت حوالي 70 بالمائة من المدارس الابتدائية، و30 بالمائة من المدارس الثانوية في “هونغ كونغ”، تعليم المنهج الدراسي الصيني إلى “بوتونغوا”.
بعد قمع الاحتجاجات ضد تسليم المطلوبين الصينيين عام 2019، وتطبيق قانون الأمن الوطني عام 2020، تم أخذ زمام المبادرة بقوة للتطبيق الكامل لتعليم “بوتونغوا” في مخطط الدراسات للغة الصينية، فمثلا، بين “وونغ تشينغ يونغ”، الأكاديمي والداعم للحكومة، في مجلة أفكار “بوهينيا” أن التغيير نحو لغة “بوتونغوا” كلغة صينية قياسية في “هونغ كونغ” سيكون جزءًا مهمًا لـ “التربية الوطنية” للمدينة، ودعم حجته بالوضعية الدولية تجاه لغة “بوتونغوا”، لكونها من بين إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة.
يمكن أن يصبح يوم 20 أبريل/نيسان، اليوم العالمي للغة الصينية للأمم المتحدة، فرصة أخرى لتعزيز توحيد اللغة الصينية في “هونغ كونغ”، المثير للسخرية هو أن هذا اليوم هو أساسًا مخصصًا للاحتفال بالاختلاف اللساني.