قُتل أكثر من مئة صحافي في غزة على يد إسرائيل منذ أن بدأت حربها المميتة على القطاع عقب توغل حركة حماس في الأراضي الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. قدمت منظمة “مراسلون بلا حدود” شكاوى متعددة إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في “جرائم القتل العمد” بحق عدد من الصحافيين في غزة.
لكن فيمَا تشخص الأنظار كلها نحو غزة، تضاعفت الانتهاكات ضد الصحافيين في الضفة الغربية. تحتل إسرائيل المرتبة السادسة بين الدول التي تسجل أعلى أعداد الصحافيين المسجونين، متعادلة مع إيران. على مدى الأشهر السبعة الماضية، اعُتقل 52 صحافيًا، جميعهم في الضفة الغربية باستثناء اثنين، وفقًا لما قاله المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية (مدى) لمنظمة جلوبال فويسز. جميعهم تقريبًا محتجزون دون محاكمة أو تهمة بموجب القانون العسكري الإسرائيلي.
يضم المعتقلون في صفوفهم صحافيات أيضًا. في هذا السياق، قالت عزيزة نوفل، وهي صحافية فلسطينية مقيمة في رام الله، لمنظمة جلوبال فويسز: “لا تفرق القوات الإسرائيلية بين النساء والرجال كصحافيين في الميدان”. عزيزة هي صحافية مستقلة تعمل مع قناة الجزيرة الإنجليزية، وتعمل مع “مراسلون بلا حدود” لتوثيق الانتهاكات ضد الصحافيين الفلسطينيين. تقول، إن الصحافيات المحتجزات يتعرضن بشكل روتيني للتهديد بالاغتصاب من قبل قوات الأمن الإسرائيلية.
سجود عاصي هي واحدة من الصحافيين الذين تحدثوا إلى منظمة جلوبال فويسز، حيث كانت قد اعتقلت في أكتوبر/تشرين الأول. كانت حاملًا في شهرها الثاني حينها، وتعرضت للتفتيش عدة مرات “بطريقة مهينة للغاية” على حد قولها. “حُرمت من الحق في تغيير ملابسي، أو الحصول على أدويتي، أو حتى الذهاب إلى الحمام”.
كما هددت القوات الإسرائيلية بإيذاء ابنتها البالغة من العمر سبع سنوات وقتل زوجها. زوجها صحافي أيضًا، وهو محتجز حاليًا. تقول بهذا الخصوص: “يتعرض للتعذيب الشديد ويحرم من أبسط حقوقه، مثل غيره من المعتقلين في السجون الإسرائيلية”.
في حين شجبت منظمات حقوق الإنسان استخدام التعذيب وغيره من أشكال المعاملة اللاإنسانية في السجون الإسرائيلية، أعرب خبراء الأمم المتحدة عن “قلقهم إزاء مزاعم موثوقة بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان” ضد النساء والفتيات الفلسطينيات، بما في ذلك الاعتداء الجنسي.
نقول نوفل، إن صحافية أخرى تدعى بشرى الطويل، اعتُقلت خمس مرات بسبب عملها مع السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. في الآونة الأخيرة، اعتقلت الطويل في مارس/آذار، ولا تزال رهن الاعتقال الإداري حتى الآن. كما أفاد شهود عيان أنها تعرضت للضرب على أيدي قوات المخابرات الإسرائيلية في منزلها خلال احتجازها.
أما الصحافية الثالثة، أسماء هريش، قيد الإقامة الجبرية منذ ستة أشهر. أضافت نوفل أن “القوات الإسرائيلية منعتها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى إجراء المكالمات الهاتفية”.
علاوة على الاعتقالات، يواجه صحافيو الضفة الغربية أيضًا قيودًا على حرية التنقل، وعنفًا واضحًا من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين.
حيث تعرّض مراسل شبكة القدس الإخبارية، محمد سمير عبد، وزملاؤه الستة لهذا العنف بشكل مباشر عندما أطلق الجيش الإسرائيلي النار عليهم في 4 يناير/كانون الثاني. كانوا يوثقون الاشتباكات بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في بلدة صير جنوب جنين.
بعد انتهاء الاشتباكات، “أردنا المغادرة وفجأة سُمع صوت طلقات نارية… لقد تم إطلاق النار علينا مباشرة”، على الرغم من ارتدائهم ستراتهم الصحافية، كما قال عبد لجلوبال فويسز. تظهره اللقطات التي صوّرها خلال الحادثة هو وزملاؤه يحتمون من الرصاص الآتي من المركبات العسكرية الإسرائيلية القريبة.
كذلك الأمر بالنسبة لجهاد بركات، مراسل قناة العربي الجديد في رام الله، الذي تعرض هو أيضًا لإطلاق النار عدة مرات أثناء تغطيته الأحداث. صرّح لمنظمة جلوبال فويسز: “في أي لحظة قد يمنعك جندي من التصوير… أو يطلق الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المطاطي”. في أحيان أخرى تكون طلقات حية، كما في حالة مقتل مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة على يد الجيش الإسرائيلي في جنين عام 2022.
في كل يوم، يخاطر الصحافيون في الضفة الغربية بحياتهم ويتعرضون لعدد لا يحصى من الانتهاكات لتوثيق الاحتلال الإسرائيلي وفضحه – مع ما يترتب على ذلك من أضرار نفسية جمة.
القيود المفروضة على حرية التنقل
بالإضافة إلى العنف المرتكب من الجيش الإسرائيلي، يواجه صحافيو الضفة الغربية العنف من المستوطنين. بهذا الشأن تقول نوفل: “هناك الكثير من هجمات المستوطنين في جميع أنحاء الضفة الغربية. نواجه صعوبات في الانتقال من مكان إلى آخر، إن الوضع خطير جدًا”.
منذ بدء الحرب، وقع أكثر من 600 هجوم من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وفقًا للأمم المتحدة. قتل تسعة أشخاص خلال هذه الهجمات، بالإضافة إلى قرابة 400 شخص قتلوا على يد الجيش الإسرائيلي حتى مطلع شهر مارس/آذار.
منذ أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت الحكومة الإسرائيلية أكثر من 100 ألف رخصة سلاح – سُجلت أعلى معدلات الأسلحة في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية – وتدرس الحكومة تسليح بعض مستوطنات الضفة الغربية بصواريخ مضادة للدبابات.
كما تم تقييد حرية تنقل الصحافيين بشدة بإنشاء عشرات نقاط التفتيش الجديدة، ومحاصرة قرى بأكملها منذ اندلاع الحرب. يقول عبد: “الآن لا أستطيع الانتقال من جنين إلى نابلس بسبب وجود نقاط التفتيش”. يشار إلى أن مدينتَي الضفة الغربية تفصلهما مسافة 40 كيلومترًا.
عند المرور عبر نقاط التفتيش، يستخدم عبد هويته الشخصية بدلًا من هويته الصحافية التي تصدرها السلطة الفلسطينية – الهيئة الحاكمة الاسمية في الضفة الغربية – “خوفًا من التأخير أو الاعتقال في أي لحظة بسبب تغطيته لجرائم الاحتلال”.
في عام 2000، حُرم صحافيو الضفة الغربية نهائيًا من البطاقات الصحافية الإسرائيلية. بدونها، يستغرق المرور عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية وقتًا أطول بكثير، بحيث يمكن أن يتطلب اجتياز مسافات صغيرة ساعات طويلة.
عند الوصول إلى الموقع، يفرض الجيش الإسرائيلي قيودًا مشددة على تحركاتهم. أفاد عبد أن “مركبات الجيش تقترب منا كثيرًا لعرقلتنا”، وعرض مقطع فيديو لمركبة مدرعة تطلق أبواقها وتسير نحوه ونحو زملائه في جنين خلال ديسمبر/كانون الثاني الماضي.
كما وجهت إسرائيل رسالة رادعة واضحة إلى الصحافيين مع عمليات القتل السابقة والأخيرة للصحافيين الفلسطينيين، في الضفة الغربية وغزة على حد سواء.
الضرر النفسي
مع الارتفاع الحاد في الهجمات على الصحافيين خلال الحرب، إن “الانتهاكات ضد الصحافيين الفلسطينيين هي عملية مستمرة وليست نتيجة للسابع من أكتوبر/تشرين الأول”، هذا ما قاله الصحافي وليد بتراوي من رام الله لجلوبال فويسز، الذي انضم الآن إلى عضوية المجلس التنفيذي للمعهد الدولي للصحافة.
في عام 2022، ارتكب الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن ما لا يقل عن 479 انتهاكًا ضد الصحافيين.
مع أن هذه الجرائم موثقة جيدًا من الهيئات المحلية والدولية، إلا أن الإفلات من العقاب يبقى سيد الموقف مسببًا تداعيات دائمة. أوضح بتراوي أنه “عندما تم التعرف على الجندي الذي أطلق النار على شيرين أبو عاقلة، أفلت من العقاب، ما يعني أن كل شيء سيتكرر”.
في غياب سيادة القانون، يتفشى الخوف. أضاف: “هناك خوف دائم وعدم يقين بشأن ما إذا كان الشخص الذي يضع إشارة “صِحافة” على سيارته محميًا أم مستهدفًا؟” وحاليًا تحقق اللجنة الدولية لحماية الصحافيين في الاستهداف المتعمد وقتل عشرات الصحافيين على يد الجيش الإسرائيلي.
يقول عبد، “قد تكون هدفًا للرصاصة التالية، وهذا شعور يلازم الصحافيين الفلسطينيين. عندما أغادر المنزل، أعول على حقيقة أنني قد لا أعود”.
ثم أن العقاب الجماعي هو مصدر خوف واسع النطاق. في هذا الإطار صرح بركات قائلًا: “لم يصبح الصحافيون أهدافًا فحسب، بل أصبحت عائلاتهم مستهدفة أيضًا. وهذا يؤثر في كل صحافي فلسطيني”.
بالفعل، تستخدم القوات الإسرائيلية الخوف والترهيب “لإسكات كل صوت حر في الضفة الغربية”، على حد قول عاصي. “هذا جزء من محاولة لفرض الرقابة الذاتية”.
التكاليف النفسية مرتفعة، مما يتسبب بآثار متتابعة على حياة الصحافيين الشخصية. “أخشى ألا أعود إلى أطفالي الثلاثة في المنزل. أخشى أن يحدث شيء ما، وأشعر أنني لا أستطيع السيطرة على حياتي”، تقول نوفل. “تؤثر صدمتنا في حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالأشخاص من حولنا”.
مع مرور الوقت يصبح الموت والصدمة أمران طبيعيان. يقول عبد، “أصوّر الجنازات كل يوم. صرت أخشى إذا فقدت شخصًا عزيزًا ألا أشعر بالخسارة، فقد أصبح شيئًا طبيعيًا بالنسبة إلي”.