كتبت هذه المقالة سوزان جارسيا على موقع كونترا كورنتي، حرر وأُعيد نشرها على موقع جلوبال فويسز بموجب اتفاقية شراكة إعلامية.
فضحت الأشهر الماضية المهزلة التي نعيشها في ظل النظام العالمي “الغربي”. حيث اغتالت دولة إسرائيل أكثر من 30 ألف فلسطيني بدعم من “الديمقراطيات” في أوروبا وأمريكا الشمالية، بينما تقف شعوب العالم شاهدة على سلسلة لامتناهية من المذابح وامتهان الكرامة، تُبث مباشرة على منصات التواصل الاجتماعي. كما نشاهد نشوء تحالفات دولية قائمة على أساس المِستعمْرِ والمُستَعمَر، حيث تتماهى المجتمعات المضطهدة في جميع أنحاء العالم مع معاناة الفلسطينيين اللاإنسانية على أيدي إسرائيل والولايات المتحدة من خلال السرديات غير التاريخية والفاشية وإنكار الإبادة الجماعية والإرهاب.
دعمت إسرائيل الدكتاتوريين الفاشيين العنيفين في أميركا الوسطى لعقود من الزمان، كما سلحتهم ودربتهم بالشراكة مع الولايات المتحدة ونيابة عنها. إلى جانب قمعها العمليات الديمقراطية بقوة واستهدافها المقاومة في أميركا الوسطى، الموسومة “إرهابية” على نحو مماثل. في حين شردت إسرائيل الفلسطينيين في أوطانهم، وارتكبت جرائم التطهير العرقي والتمييز والمذابح؛ واصلت إسرائيل في الوقت نفسه تصدير تقنياتها “المُختبرة في الميدان” إلى أميركا الوسطى مع الشراكات العسكرية والاستخباراتية وتصدير الأسلحة. لذلك، فإن النضال من أجل التحرير الفلسطيني مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنضال في أميركا الوسطى، سعيًا لوضع حد لآلة الحرب الإسرائيلية والإمبريالية الأميركية التي تُحِّركها، والنظام العالمي القاسي الذي عززهت في الأرض.
مثلما أمدت الولايات المتحدة إسرائيل والحكومات الفاشية الأخرى بالأموال والأسلحة والجنود؛ أصبحت إسرائيل امتدادًا لآلة الحرب الأمريكية. خلال الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة أحد أبرز مورِّدي الأنظمة الفاشية في السلفادور وغواتيمالا وهندوراس بالأسلحة والأموال ونظم التدريب. ومع تجلي فظائع هذه الحكومات، مُنعت الولايات المتحدة بقوة القانون من الاستمرار في دعمها لهم بحلول عام 1974، وأمرت إسرائيل بمواصلتها.
في السلفادور، وفّرت إسرائيل الأسلحة بحوالي 83 في المائة بين عامي 1975 و1979، وساعدت في تدريب وكالة الأمن القومي في السلفادور (ANSESAL) -الشرطة السرية، النواة التي انبثقت عنها فرق الموت المشينة التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين. في إطار التدريب والتكنولوجيا التي قدمتها إسرائيل، كان هناك تركيز على مكافحة التمرد والمراقبة التي تستهدف الجماعات المسلحة، وكانت إحدى هذه التقنيات نظام حوسبي قدم قائمة بالأسماء لفرق الموت اليمِينية، المستخدمة في غواتيمالا والسلفادور. أعرب العقيد سيجيفريدو أوتشوا بيريز -أحد أبرز الجهات الفاعلة في الحرب على التمرد- عن رغبته في أن يسعى الجيش السلفادوري إلى انتهاج “الحل الإسرائيلي” للدعم النيكاراغوي ضد حرب العصابات السلفادورية؛ واعتبر أن نيكاراغوا تمثل “لبنان أمريكا الوسطى”.
كانت نيكاراغوا -بعد الثورة الساندينية، كانت كابوس معادٍ للشيوعية وقصة نجاح لثوار المنطقة – هدفًا للولايات المتحدة وإسرائيل وقادة أمريكا الوسطى اليمينيين، فيما مضى، وقبل إعلان دولة إسرائيل؛ كانت هناك علاقة وديِّة بين نيكاراغوا وإسرائيل، حيث قدَّم قدم الديكتاتور أناستاسيو سوموزا جارسيا، لعملاء الهاغانا – المنظمة شبه العسكرية الصهيونية التي دمجت فيما بعد في الجيش الإسرائيلي- الأغطية الدبلوماسية اللازمة لشراء الأسلحة من أوروبا، وبحلول سبعينيات القرن الماضي استحوذت إسرائيل على 98 بالمائة من واردات نيكاراغوا من الأسلحة. بمجرد أن نجحت الثورة الساندينية في الإطاحة بسوموزا، تدخلت إسرائيل لتسليح وتدريب مقاتلي الكونتراس طوال الثمانينيات في كوستاريكا وهندوراس المواليتين للولايات المتحدة الأمريكية بهدف الإطاحة بالحكومة الساندينية واستبدالها بحكومة يمينية مناهضة للشيوعية. استُكملت هذه الجهود بمخططات الاستيطان الإسرائيلية التي كانت تهدف إلى عزل نيكاراغوا، مما أدى إلى إنشاء مستوطنات للمزارعين المناهضين للشيوعية على طول الحدود بين نيكاراغوا وكوستاريكا؛ واستخدمت إسرائيل نفس النهج على طول حدودها، لا سيما لبنان.
في غواتيمالا، أدرك إفراين ريوس مونت – الجنرال العسكري ذو انقلاب عام 1982 ليصبح رئيسًا- الدور الفعال للتدريب الإسرائيلي في نجاحه؛ حيث صرَّح رئيس أركانه أن “الجندي الإسرائيلي هو المثال الذي يحتذي به جنودنا”. كما صاغ ريوس مونت استراتيجيته الزراعية لمكافحة التمرد “الفاصوليا والرصاص” في المرتفعات على غرار برنامج نحال الإسرائيلي، الذي يدرب الجنود على التقنيات الزراعية من أجل إنشاء وتوسيع المستوطنات الحدودية. يُعتبر حكم ريوس مونت أكثر سنوات الصراع المسلح دمويةً، وأُدين بتهمة الإبادة الجماعية ضد جماعات المايا الأصلية في المحاكم الغواتيمالية في عام 2013.
في الوقت الحاضر، تدرب إسرائيل ضباط شرطة في بيليز وبنما، حيث لاقى البرنامج الأخير انتقادات لاذعة بشكل خاص عام 2021، بعد أن أظهرت صور تدريب نشرتها الشرطة الوطنية البانامية وغرفة التجارة الإسرائيلية رجلًا يوجه مسدسًا إلى صورةٍ لشخصٍ مسلحٍ يرتدي الكوفية الفلسطينية، وانتقدت اللجنة البنمية للتضامن مع فلسطين الحدث باعتباره يروج للعنصرية والعنف، ودعت الحكومة إلى إلغاء مثل هذه “التدخلات” من إسرائيل. تواصل بنما- التي لطالما كانت مؤيدًا قويًا لإسرائيل ومعقلًا تعول عليه سياسة الولايات المتحدة في المنطقة- تقديم دعمها لإسرائيل وتنكر رسميًا معاناة الفلسطينيين. وكما واجهت بنما تهديدات رسمية لإرغام البلاد كيلا تتعدى حدودها، كذلك واجهت بليز تهديدات علنية من إسرائيل بخفض السياحة الإسرائيلية وتقليص استثمار المستثمرين الصهاينة بعد إعلان البلاد تعليق العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
قدَّم صعود الصهيونية المسيحية وسيلة ثقافية ودينية لحشد الدعم في أميركا الوسطى، حيث ترسخ مع رئيس السلفادور ذو الأصل الفلسطيني نايب بوكيلي، فقبْل توليه الرئاسة وبصفته عمدة سان سلفادور، زار بوكيلي القدس برعايةٍ إسرائيلية التقى خلالها برئيسَي بلديتَي تل أبيب والقدس، وأعلن الأخير أنه “صديق لإسرائيل”، وصلى عند الحائط الغربي.
تعتبر التكنولوجيا والأسلحة إسرائيلية جزء لا يتجزأ من تحركات الرئيس السلفادوري غير الدستورية والإجرامية المرعبة، حيث استخدم بوكيلي برنامج التجسس بيجاسوس لمراقبة وتتبع الصحفيين المعارضين بشكل غير قانوني، المطور من قبل ضابط الاستخبارات والعسكري السابق يانيف ديفيد زانجيليفيتش، ووزعته وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد في أمريكا اللاتينية. خضع بيجاسوس للتدقيق بسبب استخدامه من قبل الحكومات لارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان بمراقبة السياسيين والمعارضين والصحفيين بشكل غير قانوني.
أما بخصوص تعليقات بوكيلي المتفرقة التي عبر فيها عن فخره بجذوره الفلسطينية وترويجه للتكنولوجيا والأعمال التجارية باعتبارها السبيل نحو دولة محتملة، قال الأكاديمي والمؤلف يوسف الجمل: “بالنسبة لبوكيلي، فإن فلسطين مجرد ذكرى بعيدة، فهو جزء من نظام سياسي يريد التماشي مع اليمين المتطرف، وأن يكون له علاقات وديِّة مع إسرائيل وأن يحسِّن علاقته بالحكومات اليمينية الأخرى في أمريكا اللاتينية وأن ينشئ روابط وطيدة مع الولايات المتحدة”.
في بُلدان مثل هندوراس والسلفادور، شكل الفلسطينيون “لفترة طويلة نخبة اقتصادية كانت غالبًا ما تتَّسم بالسياسية المحافظة“. فهم يرون أنَّ المقاتلين الثوريين الفلسطينيين “يشبهون بشكل خطير حركات محاربي العصابات في أمريكا اللاتينية”، ما يجعل بوكيلي كغيره من بني جِلدته وليس شاذا عنهم، ففي أعقاب 7 أكتوبر/تشرين الأول، سارع بوكيلي إلى إدانة حركة حماس بشدة، وقال إنهم لا يمثلون الفلسطينيين، ودعا إلى القضاء عليهم وقارنهم بأعضاء عصابة إم إس-13 (مارا سالفاتروتشا) الذين يمثلون الهدف الرئيس لحملته ضد عنف العصابات والجريمة، مع سجن أكثر من 70 ألف شخص دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. تعرَّضت جهوده لانتقادات من قبل المجتمع وجماعات حقوق الإنسان باعتبارها طريقة أخرى لاستهداف الصحفيين والناشطين وغيرهم من الجماعات التي تعارضه.
في أميركا الوسطى، لا يعد هذا النوع من “فِلسطنة” جماعات معينة بالأمر الجديد، حيث صُنفت فصائل المقاومة والمعارضة في ظل الأنظمة الفاشية العنيفة بأنها تمثل تهديدات للأمن القومي والإرهاب. أما بخصوص الاستراتيجية العسكرية المعْنِية باستهداف الجماعات المسلحة في عام 1971، قال الرئيس الغواتيمالي كارلوس أرانا: “إذا تطلب تهدئة الأوضاع في البلاد تحويلها إلى مقبرة؛ فلن أتردد في القيام بذلك” مرددًا بشكل مُنذر نفس الخطاب الذي عبر عنه المسؤولون الإسرائيليون مؤخرًا، وكذلك إعلان الأمم المتحدة كون غزة أصبحت “مقبرة للأطفال“. لم يكن ليحدث هذان المشروعان الإباديان في غواتيمالا وفلسطين دون دعم الولايات المتحدة. لطالما كانت أميركا الوسطى تحت سيطرة مصالح الولايات المتحدة، تمامًا كما كانت فلسطين، وكما عبر عنه الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عدة مرات: “لو لم تكن هناك إسرائيل، لكنا أنشئنا إسرائيلًا أخرى…لحماية مصالح [الولايات المتحدة] في المنطقة”، هذا هو نهج السياسة الخارجية الأميركية للحفاظ على السيطرة على العالم، النهج الذي خضعت له أميركا الوسطى منذ إعلان مبدأ مونرو قبل مائتي عام.
لم يكن التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل وليد اللحظة، بل نشأ في أعقاب حرب 1967، عندما اعترفت الولايات المتحدة لأول مرة بإن إسرائيل حليف قوي في الشرق الأوسط، وتطور هذا التحالف إلى تعاون إمبريالي كامل بين الطرفين في مختلف أنحاء العالم. بالتالي، ما دامت فلسطين خاضعة للإرهاب الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة، فإن أميركا الوسطى، كذلك، عُرضة لنفس الإرهاب الذي -وببساطة- يتم تصديره و “اختِباره في المعارك”. هذا يعني أن النظام العالمي الدولي، الذي تهيمن عليه الهيئات والتحالفات الإمبريالية الدولية، يعمل على تمكين وتشجيع مثل هذه المشاريع.
إن شعوب أميركا الوسطى في كفاحها من أجل التحرير لابد أن ترقى لمستوى دعم النضال والمقاومة الفلسطينية؛ لابد من إدانة الصهيونية والفصل العنصري وكل الإيديولوجيات الاستعمارية الاستيطانية، ولابد من حُث مجتمعاتنا ومؤسساتنا وحكوماتنا للقيام بنفس الشيء. كما قال مارتن لوثر كينغ الابن: “إن الظلم في مكان ما يشكل تهديدًا للعدالة في كل مكان”. لابد أن نتعلم أيضًا من فلسطين، لأنها تحررنا من الأوهام والخوف وسياسات الاحترام التي تحد من أَعرافنا، وأن نستخدم ذلك لمواصلة النضال من أجل الحرية للجميع، في كل مكان ــ من أميركا الوسطى إلى فلسطين وما بعدها.