بقلم هافتو هندايا جبرميسكل، أستاذ مساعد في جامعة ميكيلي في تيغراي، إثيوبيا.
في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، سيشهد سكان إقليم تيغراي الإثيوبي مضَي عامان على انتهاء الحرب الأهلية رسميًا في المنطقة. في هذا التاريخ عام 2022، وقَّع الحزب الحاكم، الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، اتفاق بريتوريا للسلام مع الحكومة الإثيوبية، ما اعتبرته الأمم المتحدة “أولى الخطوات اللازمة” لإنهاء الحرب الوحشية.
في ذلك اليوم، شأنه شأن أي يوم، سأنظر إلى زوج الأحذية القديمة التي أُبقِيها على الدرج في منزلي. تذكرني تلك الأحذية البالية الممزقة بالعامين المرعبين اللذين تحملناهما خلال الحرب. حملتني تلك الأحذية عند محاصرة الحكومة الفيدرالية وحلفاؤها تيغراي ووضعنا تحت الحصار. بين 2020 و2022، لقيّ نحو 600 ألف مدني حتفه نتيجة أعمال طائشة لا طائل منها، وشرد الصراع داخليًا 2.5 مليون.
احتفظَُ به لأن النظر إلى الحذاء، يذكرني بمعاناة لا تطاق، عشناها جميعنا. ارتأى لي أن بمقدوره الكلام. إنه يروي الذكريات التي أعجز عن التلفظ بها. لكن لابد من البوح عما حدث لنا، إذ يبدو أن الجميع نسيَّ تيغراي.
اشتريت زوج الأحذية الجديد قبل اندلاع الحرب في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020. في ذلك المساء، سلكت الحياة مسارًا جذريًا. خلال أسابيع، تدفق الناس من شتى أنحاء تيغراي إلى عاصمتنا، ميكيلي.
شنت الحكومة حملة كراهية ضد سكان تيغراي. قال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي “أعشاب ضارة ينبغي اقتلاعها بطريقة تمنعها من النمو مجددًا”. أيد السياسيين الآخرين والحلفاء تلك الآراء، إذ استخدموا لوصفنا مصطلحات مسيئة مثل “أعشاب ضارة”، و”سرطان”، و”جرذان”، و”إرهابيين”. حرضت الحكومة المواطنين المدنيين على إذلال، ومهاجمة، وسرقة، حتى قتل أفراد شعب تيغراي المكافح. آلاف من الناس فقدوا وظائفهم، ونُهِبت وأغلِقَت أعمالهم، وسجِّنوا أو قتلوا. تمت ملاحقة سكان تيغراي في كل مكان —منازلهم، والمكاتب، وجوانب الطرق، وسيارات الأجرة— استهدِفوا بسبب هويتهم فقط. أولئك الذين تمكنوا من الفرار توجهوا نحو ميكيلي أو خارج إثيوبيا بحثًا عن الأمان.
نظرًا لوصول الناس إلى ميكيلي صفر اليدين، تعين على السكان التعاون لتقديم المساعدة قدر الإمكان. كانت جهود الاجتماع والتنسيق محفوفة بالتحديات في ظل الغارات الجوية المتكررة التي تستهدف المدنيين في وضح النهار، إلا أننا ثابرنا في دعم أخواننا وأخواتنا. واصلت الهيئات المدنية إصدار إعلاناتٍ، عبر إذاعة ميكيلي، تحثنا على دعم بعضنا البعض ومشاركة المعلومات حول أماكن التبرع.
خلال ذلك الوقت، بقيَّ هذا الزوج من الأحذية معي لأني تبرعت بالأزواج الأخرى للمحتاجين. تبرع أفراد أسرتنا بمعظم ملابسهم لدعم المتضررين. بالرغم من الخوف، والصدمة، والعزيمة الصلبة، لم نتردد في مساعدة من كان لديهم أكثر منا ذات يوم.
تحَمّْل حذائي الكثير. كنت امشي برفقة صديقي أبينت نحو 16 كيلومتر (10 أميال) في اليوم في أرجاء المدينة. دون مال وتوقف تام لخدمة النقل من جرّاءِ نقص الوقود، لم يكن أمامنا خيار.
غالبًا ما كنا نزور أصدقاء عاملين في منظمات غير حكومية، على أمل أن ينقلوا رسائلنا إلى أُسْرنا خارج المنطقة أو البلد، لكونها الأماكن الوحيدة التي يوجد بها وصول محدود للإنترنت. للأسف، تردد الكثير منها في المساعدة. بعضهم طلب المال أو إسداء خدمات، فيمَا فقد آخرين الأمل. كما عاملنا البعض بفظاظة ولم يبالي بأمرنا.
كلما نظرت إلى حذائي، استعيد ذكريات محددة. في يومًا ما، فيمًا كنت أتجول في طرقات ميكيلي، صادفت صديقًا سأل عن حال شقيقتي. أثار ذلك القلق في داخلي، إذ تعرض مسقط رأسي، ميخوني في رايا، لقصفٍ شديد قبل يومٍ واحد فقط من توقيع اتفاقية بريتوريا. اكتشفت لاحقًا أن منزل شقيقتي، مبنى مدني لا تربطه صلة بأي هدف عسكري، دُمِّر. للأسف، كان ذلك تقريبًا شائع الحدوث في كل مدينة في تيغراي خلال تلك الحرب القاسية والدامية.
فاجأني سماع هذه الأخبار الكارثية حتى الصميم. منعت الحكومة الإثيوبية كافة أشكال الاتصال، لهذا لم أستطع التواصل أو ترتيب زيارة عاجلة لغياب وسائل النقل. عدت إلى المنزل، قلقًا على شقيقتي العزيزة — ربما كانت تلك أصعب مسافة أقطعها سيرًا في حياتي.
عندما وصلت، وجدت أن شقيقي جاء من مسقط رأسنا للاطمئنان علي. أخبرني أن شقيقتي كانت في منزل والدتي عندما تدمر منزلها، فغمرتني الراحة.
في حينٍ آخر، نظرت إلى حذائي، بدا أنه يحمل ذكريات حوادث الاغتصاب، كما لو أنه امتص أحاديثي خلال الحرب واختزنها. أتذكر المشي برفقة أبينت، وأنا أخبره بشأن تقرير عن العنف الجنسي نشرته منظمة العفو الدولية في 2021.
يستعصي فهم ما حدث لنساء تيغراي. تصرف الجنود بهمجية، اغتصابٌ جماعي وترك الواقيات الذكرية المستخدمة، وشفرات الحلاقة، وغيرها من الأشياء المؤذية في أجسادهن. استهدفوا الأطفال والنساء الحوامل، وأخضعوهم للاسترقاق الجنسي والتشويه وغير ذلك من أشكال التعذيب. ضايقهم هؤلاء المفترسون بالشتائم العرقية والتهديد بالقتل. اُسْتُخدِم الاغتصاب والعنف الجنسي كأسلحة حرب، يقصد بها إهانة نساء وفتيات تيغراي وتجريدهن من إنسانيتهن، مما ترك ندوبًا جسدية ونفسية دائمة. وفقًا للسلطات المحلية، اغتُصِبت 120 ألف امرأة في تيغراي خلال الصراع.
ثمة غيرها من الذكريات المؤلمة التي يعيدها حذائي، كأحد أيام أغسطس/آب 2021، حين شاهدت الأخبار ورأيت صورًا لأجساد مواطنين تطفو على سطح نهر تيكيز. كان ذلك تذكيرٌ قاس بمدى وحشية أعدائنا. عانى الأطفال بشدة، إذ فُصِلّوا عن أحبائهم، وقطع أفراد الجيش الإريتري مفاصلهم وهم على قيد الحياة. على سبيل المثال لا الحصر، قتلت الغارات الجوية كثيرًا من الأمهات والأطفال في وضح النهار في أسواق أديديرو، وألاماتا، وتوغوغا، وفي روضة أطفال في ميكيلي.
كانت الحرب شنيعة، وأثرت فظائعها على قلوب وعقول الناس من شتى أنحاء العالم. لكن لا أظن أنها أثرت على الدول القوية —الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، وغيرها من الدول الغربية— بما فيه الكفاية. عَرَفت تلك الدول، التي تفتخر بدفاعها عن حقوق الإنسان، بما جرى في تيغراي، لكنها لم تفعل أي شيء مجدي لمساعدتنا.
لدينا الآن اتفاقية سلام لكننا لسنا في سلام. مضى عامان، لكن ما يزال نحو مليون شخص عاجزًا عن العودة إلى منازلهم. لا يمكننا إعادة بناء أراضينا الزراعية المُتْلفة، أو المدن والقرى التي قصفت، لأن تيغراي تعاني أيضًا من أسوأ جفاف مر عليها منذ 40 عام. كما تأزم مستوى الأمن الغذائي في المنطقة بأكملها تقريبًا لمستوياتٍ خطرة. لثلاث سنوات متتالية، لا يرتاد 1.84 مليون طفل المدرسة في تيغراي. رغم كل الجهود المبذولة، لم يعد سوى أقل من نصف هؤلاء الأطفال للمدارس المدمرة بشدة. وفقًا لتقرير، أظهر 80% من المعلمين أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، ما يوضح الآثار النفسية التي ألحقتها الحرب بهم.
عند النظر إلى حذائي، أقول لنفسي أن الوقت يمضي، ويلقِّنا هذا الوقت دروسًا نتعلمها بطريقة قاسية. لا ينبغي أن يكف أصحاب مهارة الكتابة عن توثيق قصصنا المروعة كي يتمكن أطفالنا من تجنب تكرار الأخطاء نفسها.