
الحرف الأمازيغي ياز في التيفيناغ، والذي يستخدم كرمز للهوية الأمازيغية. صورة من ECV-OnTheRoad المصدر فليكر. CC BY-NC-ND 2.0
حالما تعلم أني جزائري، انطلاقًا من اسمي، ستعتقد أن اللغة التي أريد التحدث عنها هي العربية؛ فمن المعروف أن الجزائر، مثل جاراتها، ليبيا وتونس والمغرب، دولًا عربية، لكن وإن كنت أكتب وأتكلم بالعربية، إلا أنها ليست لغتي الأم.
تعلمت اللغة العربية في المدرسة الابتدائية في قريتي في جبال تيزي-وزو، بعد بلوغي السنوات الست. حيث تعلمت الحروف والكلمات وتركيب الجمل، وبعدها تعلمت الفرنسية ثم الإنجليزية، لكني لم أدرس على مقاعد الدراسة، لغتي التي تعلمتها من أمي التي أتكلم بها يوميًا.
الاعتراف باللغة
لم أدخل المدرسة في السن القانوني، ست سنوات، بل كان ينبغي علي انتظار عام آخر، حتى بلغت سن السابعة للالتحاق بمقاعد الدراسة. صادف ذلك العام 1994 المعروف “بإضراب المحفظة” في منطقة القبائل الجزائرية، الأخص في ولايات تيزي-وزو، بويرة، وبجاية.
طالب الإضراب، بين سبتمبر/أيلول 1994 ومايو/أيار 1995، بالاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية، كمكون من مكونات المجتمع الجزائري.
حرك الإضراب المياه الراكدة، وإن كان قاسيًا، حيث حرم عامًا من الدراسة لكثير من الطلاب. لاحقًا، أنشئت المحافظة السامية للأمازيغية عام 1995، وبدأ تدريس هذه اللغة في المدارس الجزائرية بشكل تدريجي، كما تم إدراج الأمازيغية لأول مرة ومنذ الاستقلال، في دستور 1996، كمكون أساسي من الهوية الجزائرية إضافة إلى الإسلام والعروبة، وهو ما استمر إلى غاية الاعتراف بالأمازيغية لغة رسمية عام 2016.
لغة مجهولة
هذه اللغة القديمة، التي يتحدث بأشكالها المختلفة، سكان مناطق واسعة في شمال إفريقيا كالجزائر، المغرب، تونس، ليبيا، ومصر وبعض دول الساحل، ولها امتداد جغرافي حتى جزر الكناري، إلا أنها تبقى مجهولة للكثيرين.

مدخل مدينة كيدال في مالي، حيث كُتب اسم كيدال بأبجدية التيفيناغ. الصورة من تصوير Alicroche. المصدر: ويكيميديا كومنز. CC BY-SA 2.0
حروفها -التيفيناغ- وإن نحتت على صخور الصحراء منذ آلاف السنين، إلا أن الأمازيغية بقيت شفوية بدرجة أكبر.
حتى الناطقين بهذه اللغة كتبوا بلغات أخرى غيرها على مر السنين. كتب لوكيوس أبوليوس روايته “الحمار الذهبي” باللاتينية، إحدى أقدم الروايات والرواية اللاتينية الوحيدة التي نجت بكاملها، وابن معطي الزواوي، الذي يعتبر أول من ألف في النحو عن طريق النظم الشعري بكتابه الدرر الألفية بالعربية، أول ألفية في النحو العربي أتمها عام 595 هجري، الموافق سنة 1198 ميلادي.
كما كتب مولود معمري رواية “الربوة المنسية” عام 1952 بالفرنسية، الرواية التي كتب عنها الكاتب والناقد المصري، طه حسين: “ما أشد إعجابي بهذا الكتاب الذي لا أنكر من أمره شيئًا إلا أنه لم يُكتَب بالعربية! وكان خليقًا أن يُكتَب بها، ولكن هذا عيب لا يُؤخَذ به الكاتب، وإنما يُؤخَذ به الاستعمار، وما أكثر ما يُؤخَذ به الاستعمار من العيوب والذنوب!“
تاريخ طويل
يعود تدريس الأمازيغية في الجزائر لعام 1880 خلال الحقبة الاستعمارية في المدرسة العليا للآداب بالجزائر العاصمة، كما يعود حضورها في الإعلام (الإذاعة) لعام 1948، مع قناة إذاعية تخاطب بها السلطات الاستعمارية الناطقين بها، خاصة القبائلية، إحدى لهجات اللغة الأمازيغية في الجزائر.
بعد استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي في 1962، استمرت القناة تحت تسمية “القناة الثانية“، مع إدراج لهجات أخرى مثل: الشاوية، والمزابية، والطارقية.

حروف التيفيناغ. ⵣⵉⵔⵉ ⴰⵎⵖⵏⴰⵙ من ويكيميديا كومنز. تحت رخصة CC0 1.0
كان التلفزيون الجزائري يبث برامج غنائية وثقافية شحيحة بهذه اللغة، لدرجة كانت النسوة في قريتي تنادين بعضهن كي لا يضيعن فرصة مشاهدة كليب لأغنية لإيدير أو آيت منقلات في المرات القليلة لبثها على التلفزيون الرسمي. كما تم إدراج نشرات إخبارية بالأمازيغية في التلفزيون الرسمي بداية التسعينيات، قبل إطلاق قناة تلفزيونية مخصصة للأمازيغية، القناة الرابعة عام 2009.
نضال شعوب
لا أجد نفسي أتحدث عن هذه اللغة دون الحديث عن ذلك الجانب النضالي الذي ارتبط بها.
بقاء الأمازيغية، بالرغم من قدمها، وتطورها إلى أن أصبحت اليوم مدرجة في أنظمة الحاسوب وفي غوغل للترجمة، كان بعيدًا عن الدوائر الرسمية.
يعود تاريخ انطلاق أول قناة تلفزيونية بالأمازيغية، “بربر تي في“، لعام 2000 في فرنسا، بفضل متطوعين، جمعت لها التبرعات في منطقة القبائل، سبقتها منشورات بالأمازيغية في السبعينيات، خاصة الجالية في فرنسا حيث يتواجد عدد كبير ممن غادروا جبال وقرى منطقة القبائل بحثًا عن عمل.
ليست هذه التجارب الوحيدة التي خاضها الناطقون بالأمازيغية للحفاظ على لغتهم. تم إدراج مناهج التدريس بالأمازيغية من قبل الحكومة في مقررات الأقسام الدراسية، من طرف جمعيات ومتطوعين، سواء داخل الجزائر أو خارجها، لوجود جاليات ناطقة بهذه اللغة. كما أثمر نضال الفنانين في الإنتاج الأدبي من كتابة الروايات أو القصص والمسرحيات، فيقال أن المخرج عبد الرحمن بوقرموح، كما سمعتُ مرة، قام ببيع سيارته لإنتاج أول عمل سينمائي باللغة الأمازيغية، فيلم الربوة المنسية، وتشكّلت لجنة شعبية لجمع التبرعات لتمويل الفيلم، من مواطنين متعطشين لمشاهدة السينما بلغتهم.
انتظر سيناريو الفيلم منذ عام 1968 ليرى الفيلم النور في بداية التسعينيات، حيث عُرض في الجزائر عام 1994، وفي فرنسا عام 1996.
ليست مجرد لغة
يبدو مجرد الاعتراف بوجود لغة وثقافة خاصة بمجموعة معينة يتحدث أفرادها بها، شيئًا بديهيًا، لكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للأمازيغية في الجزائر. كثيرًا ما سعى البعض لإلغائها متذرعين بأسباب عدة، فاحتاجت للعديد من السنوات والتضحيات للاعتراف بها لغة رسمية، ومكونًا من مكونات المجتمع الجزائري، الذي أصبح اليوم أكثر تمسكًا بالثقافة الأمازيغية.
عام 2017 أقر الرئيس الجزائري السابق، عبد العزيز بوتفليقة، “يناير“، يوم رأس السنة الأمازيغية الذي يصادف 12 من شهر يناير/كانون الثاني عطلة مدفوعة الأجر في الجزائر. “يناير” هو الاحتفال التقليدي الذي يشترك فيه الجزائريون، الناطقين بالأمازيغية أم لا، كما تتواجد اللغة الأمازيغية جنبًا إلى العربية، في لافتات الطرق والمؤسسات العمومية.
كما يواصل الناطقون بها، كلغتهم الأم، وأنا منهم، الحديث بها ليس كمجرد لغة، بل كجزء منهم. يروون بها بكل عفوية وصدق قصصهم، ويعبرون بها عن انفعالاتهم، وآلامهم وآمالهم.