استهداف الرعاية الصحية في مناطق النزاع: مصادفة أم استراتيجية متبعة؟

لقطة من فيلم وثائقي بعنوان “زيارة جديدة لمستشفى الشفاء في غزة“، حمّلته الجزيرة الإنجليزية على يوتيوب. الاستخدام العادل.

عُثر مؤخرًا على جثث 15 رجل إنقاذ فلسطيني في غزة، فيما يبدو أنهم ضحايا عملية إعدام منظمة، فقد أفاد الأطباء الميدانيين العثور على رجال الإنقاذ مصابين بطلقات نارية في الرأس وأيديهم مقيدة، مؤشرات مقلقة على تنفيذ عمليات إعدام دون محاكمة. تُعدّ هذه المجزرة هي الأحدث في سلسلة من الهجمات المُستهدفة ضد الطواقم الطبية خلال حرب إسرائيل المستمرة على غزة، ومؤشرًا على استخفافها بالقانون الدولي، حيث قُتل الآلاف من العاملين في مجال الرعاية الصحية واختُطف المئات منهم على يد إسرائيل تقارير عن حالات تعذيب.

وأظهر مقطع فيديو عُثر عليه في هاتف أحد المسعفين الذين تم العثور عليهم في المقبرة الجماعية اللحظات الأخيرة لهم، وعَرْضِه على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

عُثر على هذا الفيديو على هاتف مسعف عُثر عليه برفقة 14 رجل إنقاذ وعامل طبي فلسطيني في مقبرة جماعية بغزة. قَدّمت جمعيتا الصليب الأحمر والهلال الأحمر الفيديو إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الأسبوع.

لا تُسلِّط هذه الحادثة الضوء على نمطٍ من العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية والمستشفيات فحسب، بل أيضًا الغياب شبه التام لمساءلة سلوك إسرائيل في غزة، حيث قضت محكمة العدل الدولية بالتصديق على وقوع أعمال إبادة جماعية، حيث تنتهك هذه الهجمات الممنهجة المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي، وتعكس التطبيع المتزايد مع الاعتداء على الحق في الصحة في حالة الحرب.

تَوجُّه عالمي نحو العنف المتصاعد

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا كبيرًا لاستهداف العاملين في قطاع الرعاية الصحية والمستشفيات والبنية التحتية الصحية في مناطق النزاع، لا سيما في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا. ليس ثمة مكان آخر يتجلى فيه التدمير أوضح من غزة، حيث وصل التدمير الممنهج لنظام الرعاية الصحية من قبل إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة. بحلول أوائل عام 2024، سُجلت أكثر من 761 حادثة عنف ضد الرعاية الصحية الفلسطينية – ما يعادل إجمالي عدد الهجمات في السودان وأوكرانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية مجتمعة.

وثّق تقرير عام 2023 الصادر عن تحالف حماية الصحة في حالات النزاع ارتفاعًا بنسبة 25% في الاعتداءات على مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها على مستوى العالم، مما جعله العام الأسوأ على الإطلاق. شملت هذه الاعتداءات تفجيرات ونهب وقتل شلّ أنظمة الرعاية الصحية، حرمت المدنيين من الرعاية الأساسية. وجد التقرير أن ما يقرب من نصف هذه الحوادث نُسبت إلى قواتٍ حكومية. كما كشف التقرير أنماطًا واضحة من العنف ضد النظام الصحي في أماكن مثل ميانمار والصومال والسودان وسوريا وأوكرانيا وعلى رأسهم غزة.

أشار التقرير إلى أن “النزاعات التي يبرز فيها العنف ضد المنظومة الصحية كنمطِ ثابتِ – تبدأ غالبًا بمستوياتِ قصوى من العنف ضد النظام الصحي”. في عام ٢٠٢٣، أصبح هذا الاتجاه واضحًا بشكل مُلفت في مانيبور (الهند) والسودان وغزة.

حرب إسرائيل على غزة: الرعاية الصحية تحت الحصار

لم يقتصر قصف إسرائيل وحصارها لغزة على تدمير المنازل والبنية التحتية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تفكيك نظامها الصحي بشكل ممنهج، حيث قُصفت المستشفيات والعيادات وهوجمت القوافل الطبية وتم اختطاف العاملين في مجال الرعاية الصحية وقتلهم. على سبيل المثال، استُهدفت مستشفى كمال عدوان بغارات جوية متكررة، حيث لا يزال مديرها الدكتور حسام أبو صفية رهن الاحتجاز الإسرائيلي وسط أنباء عن تعرضه لسوء المعاملة. كما تعرض مستشفى الشفاء، أكبر مجمع طبي في غزة للهجوم والتدمير، وكشف تحقيق أجرته منظمة “فورنسيك أركيتكتشر عن وجود مقابر جماعية في حرم المستشفى.

بحلول فبراير/شباط 2024، أفادت منظمة الصحة العالمية أن جميع مستشفيات غزة إما أنها منكوبة أو مهدومة أو أصبحت غير صالحة للعمل بسبب نقص الوقود وتعرضها للهجمات. وثَّقت منظمة الصحة العالمية إلى الآن 427 هجومًا على مرافق الرعاية الصحية في غزة والضفة الغربية بحلول 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ما أسفر عن وقوع 566 حالة وفاة و758 إصابة.

انتشرت على الإنترنت عشرات الفيديوهات التي صوّرها جنود إسرائيليون وهم يهدمون المستشفيات والمدارس وغيرها من البنى التحتية المدنية. أحد الأمثلة الحديثة على ذلك تدمير مستشفى الصداقة التركي.

عاجل: جيش الاحتلال الإسرائيلي يفجر ويدمر مستشفى الصداقة التركي، المستشفى الوحيد في غزة المخصص لمرضى السرطان.

في مارس/آذار 2025، خلُص تحقيقٌ للأمم المتحدة إلى أن تدمير إسرائيل لمرافق الرعاية الصحية الإنجابية في غزة باستهداف أقسام الولادة وعيادات التلقيح الصناعي وتقييد الوصول إلى الرعاية الأساسية – بلغ حد جرائم الإبادة الجماعية. أورد التقرير تفاصيل عن أثر هذه الهجمات المتعمدة وذلك إلى جانب القيود المفروضة على الإمدادات الغذائية والطبية في التدمير الجزئي للقدرة الإنجابية للفلسطينيين في غزة.

أمرونا جميعًا، رجالًا ونساءً، بخلع ملابسنا ومواصلة السير، وأمرونا بالنظر إلى الأمام فقط. كنت أسير عاريًا بين الدبابات، بلا ملابس داخلية حتى. بصق جندي إسرائيلي في وجهي. أجبرت نفسي على عدم الرد، لأنني كنت أعلم أنهم سيفعلون…

الهجمات الإسرائيلية على قطاع الرعاية الصحية في لبنان

تجاوزت الهجمات الإسرائيلية على قطاع الرعاية الصحية حدود فلسطين. خلال هجماتها على لبنان، من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2024، قصفت إسرائيل 37 منشأة صحية، ما أسفر عن مقتل 70 من العاملين في المجال الصحي. بحلول 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ارتفع عدد الضحايا إلى 178 قتيلًا و292 جريحًا. كما تضرر ما مجموعه 243 سيارة إسعاف، و84 عيادة، و40 مستشفى جراء الهجمات الإسرائيلية.

أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من نصف الهجمات على قطاع الرعاية الصحية في لبنان أسفرت عن وفيات، ما يجعله الصراع الأكثر فتكًا بالعاملين في مجال الرعاية الصحية على مستوى العالم من حيث معدل الوفيات لكل حادثة.

أثارت ضخامة هذه الهجمات ردود فعل قانونية دولية، ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، رفعت دولة جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة. انضمت العديد من الدول من الأغلبية العالمية إلى الدعوى. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عام ٢٠٢٤ مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

رغم هذه الإجراءات، لم تواجه إسرائيل أيةَ عقوباتٍ أو مساءلة ٍمجديةٍ من حلفائها الغربيين. وتتناقض هذه الحصانة بشكلٍ صارخٍ مع التزامات الدول القانونية بموجب القانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية.

على نطاق أوسع: الهجمات على قطاع الرعاية الصحية في كل من السودان وسوريا واليمن

أدى الصراع الدائر في السودان إلى أضرار جسيمة في البنية التحتية للرعاية الصحية، ففي أول 500 يوم من الحرب الأهلية، تضرر ما يقرب من نصف مستشفيات الخرطوم، ما ألحق ضررًا بالغًا بالرعاية الطبية. وقد وثّق تقرير الأضرار التي لحقت بحوالي 41 مستشفى من أصل 87 مستشفى في الخرطوم، ما يُمثل انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي، ويدفع النظام الصحي الهش بالفعل إلى حافة الانهيار، حيث تعطل العمل في 70% من المرافق الصحية في الولايات المتضررة.

كشف تحقيق أجرته مجلة حكاية “أنتولد ماغ” عن هجمات ممنهجة على مستشفيات الفاشر، استهدفت الكوادر الطبية، وألحقت ضررًا بالغًا بالبنية التحتية للرعاية الصحية في السودان.

رفعت السودان بعد ذلك دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد الإمارات العربية المتحدة، متهمةً إياها بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية وذلك بتمويلها وتسليحها قوات الدعم السريع وهي جماعة متمردة في حرب السودان المستمرة. تزعم السودان أن الإمارات دعمت قوات الدعم السريع في ارتكاب جرائم إبادة جماعية وقتل واغتصاب وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان.

أما في سوريا، فقد شهدت أيضًا الحرب المستمرة منذ عقد، استهدافًا واسع النطاق لمرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها، مما ترك البلاد بنظام صحي منهك ومدمَّر. في عام 2021، كشف تقرير صادر عن لجنة الإنقاذ الدولية بعض الخسائر والهجمات المدمرة على الرعاية الصحية في البلاد. حيث قال 56% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع في التقرير إنهم يخشون العيش بالقرب من المرافق الصحية لأنها مستهدفة.

في اليمن، أدى الصراع الممتد إلى هجمات عديدة على مرافق الرعاية الصحية من قبل التحالف الذي تقوده السعودية، ما زاد من تدهور النظام الصحي الهش بالفعل. كما أدى تدمير المستشفيات والعيادات لحرمان الملايين من الخدمات الطبية الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. وتشير التقارير إلى أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة نفذتا أكثر من 130 هجومًا على المستشفيات والبنية التحتية للرعاية الصحية، منتهكتين بذلك القانون الإنساني الدولي.

انهيار النظام القانوني والأخلاقي

يعكس هذا التطبيع المتزايد للهجمات على مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها وجود أزمة في النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يتعرض القانون الدولي والمؤسسات وكذلك الحماية الدولية لهجوم غير مسبوق.

فقد سادت الاستهانة بالحماية المنصوص عليها في القانون الدولي – وخاصةً اتفاقيات جنيف – بشكل روتيني، لا سيما من قِبل الدول العظمى وحلفائها. وبالرغم من أن الآليات القانونية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية قد تحمل بصيصًا من الأمل، إلا إنها تظل بلا قوة فِعلية في غياب آليات الإنفاذ والإرادة السياسية.

تُسلط قضايا المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، إلى جانب ردود فعل الدول الغربية، الضوء على انعدام مسائلة الجناة. فبدون عقوبات وإجراءات قانونية وكذلك وضع حد للحصانة السياسية لدولٍ مثل إسرائيل، سيستمر تقويض المعايير التي تحمي المدنيين في النزاعات – ومعه سيستمر انهيار الأنظمة الضعيفة التي من المفترض لها حماية الأرواح في أوقات الحرب.

يعكس خطاب مؤثر أدلت به طبيبة العناية المركزة للأطفال تانيا الحاج حسن والتي عملت في غزة مخاطر التطبيع مع الهجمات على المستشفيات والعاملين في المجال الطبي.

ثمانية عشر شهرًا على هذه المحرقة. لا يزال قادتنا يدعمونها.

“عندما كنت في غزة، شعرتُ أنها مقدمة لنهاية البشرية”، قالت الطبيبة البطلة تانيا حسن للأمم المتحدة.

ألا تشعرون بذلك أيضًا؟ لا أستطيع أن أرى سبيلًا للتراجع عما سمحنا بحدوثه.

إن تطبيع الهجمات على الرعاية الصحية نتيجة مباشرة لهذا التملص من العقاب. فهو لا يعكس انهيارًا في الحوكمة العالمية فحسب، بل يُعيد صياغة مخيفة لما هو مسموح به في الحرب. ما دام الجناة بلا عقاب، سيستمر قصف المستشفيات، وسيُعامل الأطباء كمقاتِلين، وسيظل الحق في الصحة من أوائل ضحايا الحرب.

ابدأ المحادثة

الرجاء تسجيل الدخول »

شروط الاستخدام

  • جميع التعليقات تخضع للتدقيق. الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر تعليق مزعج.
  • الرجاء معاملة الآخرين باحترام. التعليقات التي تحوي تحريضاً على الكره، فواحش أو هجوم شخصي لن يتم نشرها.