صرح وزير الخارجية الأرميني، أرارات ميرزويان في مقابلة مع وكالة الأخبار التركية الأناضول، في الخامس عشر من مارس/آذار أن الدولة متحمسة لإقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود مع جارتها تركيا. جاء تصريحه بعد أيام من لقائه بنظيره التركي، مولود جاويش أوغلو على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الذي أقيم بين الحادي عشر والثالث عشر من مارس/آذار، وقد وصفت التقارير لقائهما بالبنَّاء والمثمر.
كان اللقاء هو جلسة الإصلاح الأولى بين وزيري خارجية البلدين منذ عام 2009، وكان جزءًا من الجهود المشتركة لإقامة العلاقات الدبلوماسية التي كانت قد قطعت منذ بدايات التسعينات.
لأول مرة في تاريخ البلدين تكن كل من تركيا وأرمينيا مستعدتان لتحييد المذبحة الأرمينية والصراعات حول منطقة مرتفعات قره باغ، والتي عكرت علاقاتهما الدبلوماسية لعقود، حيث ترفض تركيا الاعتراف بأحداث عام 1915 كمذبحة، كما دعمت أذربيجان في حرب مرتفعات قرة باغ التي نشبت بين أذربيجان وأرمينيا عام 2020.
رغم أن تركيا كانت من بين أوائل الدول التي اعترفت باستقلال أرمينيا عام 1991، إلا أن العلاقات بين البلدين انقطعت عام 1993 عندما أغلقت أنقرة الحدود في دعم تركي للحليف المقرب أذربيجان خلال حرب مرتفعات قره باغ الأولى. في ذلك الوقت فقدت أذربيجان السيطرة على أرض مرتفعات قره باغ الحبيسة وسبع أراض مجاورة.
بعد تلويح كل من تركيا وأرمينيا في عام 2008 برغبتهما في إصلاح العلاقات تعطلت العملية بسبب معارضة قوية من أذربيجان، ما نتج عنه فشل بروتوكولات زيوريخ – والمعروفة أيضًا بدبلوماسية كرة القدم – مما أدى لتباعد دبلوماسي أكبر بين البلدين.
غيرت نتائج حرب قره باغ شكل العلاقات السياسية بينهما بعد استعادة أذربيجان السيطرة على الأراضي السبع المحيطة بمرتفعات قره باغ، والتي كانت قد خسرتها لصالح أرمينيا. جاء في تحليل المجموعة الدولية للأزمات الذي يعاين المرحلة الجديدة من التطبيع: “بدأت تركيا في الإشارة إلى استعدادها لمحادثات جديدة مع أرمينيا.”
أقيمت الجولة الأولى من المحادثات في العاصمة الروسية موسكو في الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2022، مما بعث الآمال في تسوية الوضع بما فيها من احتمالية فتح الحدود.
قد يؤثر ذلك الأخير على العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بين الدولتين ومواطنيهما، حسب تصريح المسؤولين في العاصمة الأرمينية يريفان؛ حيث قال وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان في الرابع عشر من مارس/آذار: “سيكون لفتح الحدود أثرًا إيجابيًا على التواصل الطبيعي بين الدولتين وعلى العلاقات التجارية، والاقتصادية، والتفاعل بين الشعبين وعلى الاستقرار في المنطقة بوجه عام”، وأضاف أن استطلاعات الرأي قد أظهرت موافقة معظم الأرمينيين على تطبيع العلاقات.
أظهر استطلاع رأي حديث نشره المعهد الجمهوري الدولي في يناير/ كانون الثاني 2022 أن 90٪ من الأرمن يرون أن تركيا تشكل أكبر تهديد سياسي وأمني لأرمينيا. في حوار مع غلوبال فويسز، قال جيمس دي ويت رئيس البرنامج الأرميني بالمعهد الجمهوري الدولي: “إن المجتمع الأرميني يحمل تركيا مسؤولية خسارة الحرب (في 2020) ويرى أن تلك استمرارية لسياسات تركيا في الإبادة الجماعية.”
عقب محادثات يناير/ كانون الثاني في موسكو استأنفت كلا من اسطنبول ويريفان رحلات طيران (شارتر) في الثاني من فبراير/شباط 2022، واجتمعتا للمرة الثانية في فيينا في الرابع والعشرين من فبراير/شباط، حيث أعادتا التأكيد على التزامهما بالاستمرار في المفاوضات الهادفة للتطبيع الكامل للعلاقات. كان استئناف رحلات الطيران موضع ترحيب في تركيا. في حديثه إلى المراسلين عقب الاجتماع الأول في موسكو في يناير/ كانون الثاني وقرار استئناف رحلات الطيران، قال غارو بايلان عضو مجلس النواب عن حزب الشعب الديمقراطي (HDP) في تركيا والموالي للأكراد أن استئناف الرحلات كان خطوة هامة لحث السياسيين على استغلال هذه الفرصة في السلام.
نقلاً عن تصريح في الخامس عشر من فبراير/شباط لبايلان الذي ينتمي لأسرة أرمينية في اسطنبول: “قد تكون هناك مشكلات لكن يمكننا أن نحظى بدبلوماسيين ممثلين على الجانبين، وأن نفتح الحدود، وأن نطلق برامج اقتصادية إقليمية تنفع الطرفين وتنفع شعبي أرمينيا وتركيا كذلك.”
بالفعل يقدر مجلس تطوير الأعمال التركي الأرميني TABDC أن يصل حجم التجارة بين تركيا وأرمينيا إلى مليار دولار خلال ثلاثة أعوام، بالإضافة إلى عوائد السياحة إذا فتحت الحدود.
بدءا من الثاني من فبراير/شباط سيتمكن الأرمينيون والأتراك من الاختيار بين السفر على متن خطوط الطيران الاقتصادية التركية (بيغاسوس) أو خطوط الطيران الاقتصادية المولدوفية (فلاي وان) في الرحلات التي ستسيَّر بين البلدين ثلاث مرات في الأسبوع.
صرح آيبارس غورغولو، مدير مركز السياسات العامة ودراسات الديمقراطية، وهي مؤسسة بحثية قائمة بإسطنبول، لـغلوبال فويسز أن التقارب بين أنقرة ويريفان وفتح الحدود، سيكون لهما آثارًا اقتصادية واجتماعية، وتابع غورغولو: “خاصة عند المدن الحدودية مثل قارص وإغدير، وسنرى حراكًا تجاريًا وسياحيًا، وبالتالي سيتحقق التصالح الاجتماعي مع الوقت.”
وافق نوياك سوياك نائب رئيس مجلس تطوير الأعمال التركي الأرميني رأي بايلان، حيث صرح لـغلوبال فويسز أن فتح الحدود وما يتبعه من حركة تجارية سيغلب المشكلات التاريخية والسياسية عن طريق تقريب الدولتين المتجافيتين، وقال: “ستكون التجارة عاملًا في تعزيز السلام بين المجتمعين، كما ستشكل فرصة أخرى لتعرف المجتمعين على بعضهما البعض من جديد، المجتمعان اللذان يعيشان على نفس الأرض لكنهما فعليًا بعيدان عن بعضهما.”
أضاف سوياك أن خط السكة الحديدية (دوغوكابي قارص) والذي مازال في حالة جيدة رغم إغلاق الحدود سيخلق فرصًا جديدة لمشروعات دولية مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تعزز طرق النقل البرية بين أوروبا والصين، وتتوافق تلقائيًا مع فتح الطريق أمام إمكانية وجود نقاط ترانزيت بجنوب القوقاز. قال (سوياك): “يعد الموقع الجغرافي لأذربيجان على ساحل بحر قزوين وموقع أرمينيا مع جارتها تركيا نقطتي جذب كبير لربط مركزي النفوذ الاقتصادي في أوراسيا: الاتحاد الأوروبي وشرق آسيا.”
كما ظهرت محاولات أخرى لتليين العلاقات بين البلدين، ففي بداية يناير/ كانون الثاني رفعت أرمينيا الحظر عن البضائع التركية، ودعت تركيا مسؤولين أرمن لمنتدى أنطاليا الدبلوماسي، حيث تقابل الجانبين في مارس/آذار 2022. كما أن فرص تدخل أذربيجان كما حدث في 2008 تعتبر ضعيفة، ففي ديسمبر/كانون الأول 2021 أكد مسؤولون في باكو أن الدولة لن تكون عقبة في التقارب بين أنقرة ويريفان.
نهج يبدأ من القمة أم من القاع؟
لكن رغم التقدم الذي يحرزه القادة مازال هناك مشككون يطلقون على المحادثات الأخيرة عملية يقودها قادة سياسيون أتراك وأرمن من برج عال، ويشير توماس دي فال كبير خبراء المنطقة من اتحاد (كارنيغي) بأوروبا إلى أن الطرفين يفتقدان لاستراتيجية يقنعان بها المشككين.
يوافقه الرأي فيليب غاماغيليان، أحد بناة السلام الذين لهم باع طويل من يريفان، ومؤسس مبادرة بناء السلام “مركز (إيماجين) لتحويل الصراعات” قائلاً لـغلوبال فويسز: “إن ما بين تركيا وأرمينيا حاليًا هي عملية رسمية محضة تفتقر فعليًا لأدنى مستويات التأييد”، وأضاف: “إن التركيز اليوم ليس منصبًا على الصلح إطلاقًا، وإنما على مواضيع جافة كالحدود وروابط النقل.”
قال غاماغيليان لـغلوبال فويسز أن الوضع على أرض الواقع متفاقم بسبب قلة بناة السلام في المشهد الدبلوماسي، وأن السبب الرئيسي لذلك هو الانتقال بالعملية من بناة السلام السابقين إلى المسؤولين الحكوميين في أرمينيا، وقلة التعاون بين المبادرات شبه الغائبة للمجتمع المدني لبناء السلام في أذربيجان وتركيا.
يعتبر آيبارس غورغولو أكثر تفاؤلاً في تحليله، ذلك لأن فتحه للحدود وتأسيسه لعلاقات دبلوماسية ما هي إلا بداية لعملية أطول بكثير بهدف التصالح، خاصة فيما يتعلق بقضايا مؤلمة كالاعتراف بالمذبحة، فغورغولو يؤمن أن تلك القضية وغيرها لا يمكن حلها إلا من خلال عملية التطبيع والتواصل بين الشعبين الأرميني والتركي.
“إن المشاعر على أرض الواقع – على الأقل في تركيا – تصدق على ذلك.” هكذا عبر إليم غوكتاش أحد سكان قرية كالكانكالي، والذي عمل بمحطة قطار دوغو كابي (البوابة الشرقية) بمدينة قارص لستة سنوات في التسعينات. وصرح لوكالة الأناضول: “آمل أن تفتح البوابة، وأن يحل السلام والهدوء على المنطقة، وأن ينتعش اقتصادنا المحلي.”