نضال الآشوريين في العراق لحقهم في التعبير وسط تهديدات التطرف والقمع السياسي

إبداع نوران مرسي للأصوات العالمية.

هذا المقال هو جزء من سلسلة تبحث في حرية التعبير، وحرية الوصول إلى المعلومات في المساحات الرقمية عبر ستة مجتمعات لغوية في منطقة الشرق الاوسط وشمال إفريقيا. 

في الساحة النابضة بالتحديات في منطقة الشرق الأوسط، لا يمكن التطرق لقضية حرية تعبير الآشوريين دون إلقاء نظرة على الاغتراب التاريخي المستمر الذي يعيشه الآشوريون على أراضيهم الأصلية، والتي تمتد من العراق إلى بعض المناطق في تركيا وسوريا. تعكس قصة الآشوريين المصاعب التي تواجهها الأقليات الاصلية في منطقة الشرق الأوسط التي تتسم بالتلاطم السياسي.

رافقت احتفالات الأشوريين في العراق، وسوريا، وحول العالم، في الأول من نيسان/ابريل الماضي برأس السنة الاشورية 6773 ألمًا عميقاً، خاصة لدى الأقليات الآشورية المتبقية في مناطقهم الأصلية في دهوك، وأربيل، ونينوى، وبغداد في العراق؛ في ظل هجرة كبيرة لأبناء هذه الأقلية الأصيلة في الشرق الاوسط إلى أوروبا، وأمريكا، وأستراليا، بسبب عقود من القمع المستمر، والنزاعات الطائفية، والحروب السياسية، معرضين بذلك لغتهم الآشورية الأم، بتاريخها الطويل الذي  يمتد عبر 3000 عام لخطر الزوال في وطنها الأصلي في الشرق الأوسط.

تضاءل عدد الآشوريين في العراق من حوالي 800 ألف و1.4 مليون نسمة في تسعينيات القرن الماضي إلى أقل من 142 ألف نسمة حاليًا، حسب منظمة شلمة، التي تكرس جهودها لتوثيق أعداد الآشوريين، والكلدانيين، والسريانيين في العراق.

يعزى هذا الاضمحلال إلى التغيرات التي أعادت هيكلة الخارطة السياسية في المنطقة، خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق، الذي ألقى بظلال طويل على الشعب العراقي، ولا يزال يعاني من آثارها حتى يومنا هذا. في نفس الوقت الذي تقاعست فيه الحكومات العراقية المتعاقبة عن وفير الحماية للآشوريين من الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم داعش الإرهابي، ومن المجموعات العرقية الأخرى في البلاد، مثل حزب العمال الكردستاني، الذي يحاول السيطرة على أراضيهم الأصلية في سهول نينوى، ويلجأ إلى استخدامهم كدروع بشرية في مناوراتهم العسكرية ضد الحكومة التركية على الحدود العراقية التركية، كتكتيك لترويعهم والتسبب برحيلهم.

أعادت هذه العوامل هيكلة طريقة حياة هذه الأقلية، وأثرت على حقوقهم الإنسانية، من ضمنها حقهم في التعبير عن هويتهم، وثقافتهم، ولغتهم. 

وفقًا لمعهد السياسة الآشورية، انخفض عدد الآشوريين في العراق بنسبة 90٪ تقريبًا بعد حرب العراق. هذه هي مدى حساسية التركيبة السكانية. يمكن أن تنقلب الأمور عند تغير النظام.

نضال الآشوريين للتعبير عن هويتهم على مدى قرن من الزمن

يبرز الآشوريون كأقلية عرقية، ودينية، ولغوية أصلية في موزاييك منطقة الشرق الأوسط. هم ورثة الحضارة الاشورية القديمة التي ازدهرت في بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا)، التي تشكل حاليًا الجزء الأكبر من العراق. يعتنق أغلبيتهم الديانة المسيحية، بالإضافة إلى وجود أقليات من الديانة الإسلامية، واليزيدية ينسبون أنفسهم إلى الآشوريين.  

الامبراطورية الآشورية

لطالما تم تهميش الآشوريين في الشرق الأوسط بعد انهيار إمبراطوريتهم عام 609 قبل الميلاد.

في فجر القرن الماضي، عانى الآشوريون وغيرهم من المجموعات العرقية في المنطقة الأمرّين تحت الحكم العثماني، الذي سعى إلى فرض الهوية العثمانية وممارسة السيطرة على جميع المجموعات العرقية عن طريق سياسات التتريك، التي روجت للغة والثقافة التركية كأيديولوجية حاكمة ورسمية للدولة على حساب الثقافات الأخرى. ارتكب العثمانيون عمليات إبادة جماعية بحق الآشوريين رفقة الأرمن، واليزيدين، وغيرهم، مما تسبب بهجرتهم من المنطقة، كما أدى إلى تجنبهم التعبير عن هويتهم الثقافية، والدينية، واللغوية خوفا من القتل والإبادة. 

هكاري الآشورية – لا تسمحوا لهم بالعودة. في مايو/أيار 1915، تم منح حيدر باشا، محافظ الموصل، السلطة لغزو هكاري. حيث أمر طلعت باشا، وزير الداخلية في تركيا، بطرد الآشوريين وأضاف: “لا يجب أن نسمح لهم بالعودة إلى أوطانهم”.

استمر قمع الآشوريين بعد الحرب العالمية الأولى، مع سقوط الدولة العثمانية وقيام مملكة العراق تحت الانتداب البريطاني، بسبب مطالبتهم من بريطانيا، بكيان مستقل لهم، مقابل تجنيدهم في الجيش، لكن بريطانيا لم تف بوعودها لهم، خوفا على مصالحها. أدى إصرارهم على الاستقلال إلى العداء السياسي والقمع ضدهم من قبل الحكومة العراقية المؤسسة حديثًا وقتها. 

في عام 1933، استهدف الجيش العراقي أكثر من 60 قرية آشورية، حيث قتل أكثر من 3000 شخص فيما عرف “بمذبحة سيميل“. تسببت هذه المذبحة بتهديد حقيقي للوجود الآشوري في المنطقة، مما أسفر عن هجرة واسعة لهم بعد هذه الحادثة. 

في مقابلة مع جلوبال فويسز، أشار أستاذ سعد سلوم، مساعد في العلاقات الدولية بكلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، والمدافع عن حقوق الأقليات في العراق إلى أن مجزرة سيميل عمقت روح عدم الثقة بين الآشوريين وجيرانهم من الكرد والعرب، كما أبرز أن الثقة لم تعد أبدًا، خاصة أن القمع لم يتوقف:

“في مجزرة سيميل 1933، على يد الجنرال بكر صدقي، تجسدت استمرارية فكرية وتاريخية للإبادة الأسبق والأكثر شهرة ضد الأقليات، إبادة الأرمن عام 1915. استكملت دينامية الاستنزاف البطيء بعد مائة عام، بما حدث عام 2015، من قبل تنظيم داعش الإرهابي الذي حمل قسمات الاستمرارية الفكرية والعقلية ذاتها.”

 تناقلت الأجيال روايات عن الإبادات العثمانية والعراقية بشكل شفهي، حيث لم يتمكن الآشوريون من توثيق ما حدث لهم على يد الأتراك أو الجيش العراقي بسبب غياب مناخ حرية التعبير، لكن بعد هجرتهم الواسعة إلى الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، حظوا بحرية أكبر في التعبير، فبدأت حكايات الناجين منهم بالانتشار بشكل علني بواسطة أحفادهم.

في أوائل السبعينيات، حاولت حكومة البعث تحسين وضع الآشوريين في العراق. كان تدريس اللغة السريانية قبلها محصورًا في الكنيسة وعدد قليل من المدارس، لكن في عام 1972 أقرت الحكومة قانونًا في الحقوق الثقافية واللغوية للناطقين بالسريانية والسماح بتدريسها في المدارس التي يتحدث فيها الغالبية بتلك اللغة، بالإضافة إلى اللغة العربية.

في حوار مع الناشط اللغوي الأشوري، أدد يوسف، رئيس شبكة تحالف الأقليات، وضح أن القانون لم يكن كافيًا، حيث تم اعتبار الآشوريين ناطقين باللغة السريانية، ولكن لم يُعترف بهم كمجموعة عرقية، وكذلك باللغة رسميًا؛ مع ذلك ساهم ذلك القليل من الدعم بالحفاظ على اللغة لوقت قليل:

الاعتراف بحقوق الناطقين بالسريانية جاف الحقيقة، لأن حزب البعث كان يعتبر الجميع عربًا باستثناء الكرد والتركمان. مع ذلك، أتاح إقرار هذه الحقوق تعليم اللغة السريانية في المدارس الرسمية في المناطق ذات الأغلبية من الآشوريين واستمرت لعدة سنوات حتى توقفت.

في أواخر سبعينيّات القرن العشرين، عمل صدام حسين على قمع منتقديه، ومن بينهم الأقليات، حيث منع الأكراد، والتّركمانيّين، والآشوريّين، وغيرهم من التعبير عن هوياتهم أو لغاتهم الأصلية، وفرض قبضته الحديدية على حرية الإعلام والتعبير، وغيرها من الحريات.

مع ذلك، شعرت بعض الأقلّيّات بالأمان تحت حكم حسين، لوجود “نوع من العقد الاجتماعي” بين الطّرفين، حسب الناشطة الآشورية جوليانا خامو؛ إذ إن صدام حسين أمّن لأفراد الأقليات مستوى معيشيًّا جيّدًا طالمَا لم يمارسوا حقهم في التعبير؛ بذلك، استطاع الآشوريون الحفاظ على هويتهم الدينية ولغتهم الأصلية ببقائهم على الهامش خلال تلك الفترة. 

 تغير هذا التوازن الهش مع الغزو الأمريكي للعراق، الذي لم يؤد إلى سقوط صدام فحسب، بل لانتعاش المليشيات، والتطرف، وأهمها تنظيم داعش.

استهدفت داعش الأقليات، بمن فيهم الآشوريين، حيث ارتكبت الفظائع ضدهم من ضمن الأقليات الأخرى. دُمرت الكنائس، والأديرة، والمواقع الآشورية التراثية والثقافية، مثل مدينة نمرود القديمة في العراق، التي تعتبر مهد الحضارة الآشورية مع آثار آشورية تاريخية مهمة، وفريدة في العالم.

أُكره الآشوريون على اعتناق الإسلام، وصودرت ممتلكاتهم بشكل قسري، كما فرضت قيود على ممارسة دينهم والتحدث بلغتهم. كانت النساء والفتيات الآشوريات أضعف الضحايا، حيث تعرضن للعنف الجنسي والزواج القسري بشكل متكرر. هذه البيئة المعادية خلقت مناخًا من الخوف، والرقابة الذاتية، والصمت لتفادي الأذى، كما ساهمت بالحد من فرصة الآشوريون للتعبير عن أرائهم ومعتقداتهم بشكل منفتح، وبلا خوف.

متطرفو داعش يدمرون تمثال ثور مجنح برأس إنسان آشوري في متحف الموصل، العراق، 26 فبراير/شباط 2015. شيء محزن! هذه الآثار والمنحوتات ملك للإنسانية جمعاء، ويجب الاعتزاز بها وحمايتها! مأساة حقيقية

وضع حرية التعبير للآشوريين في العراق المعاصر

 قبل حكم داعش بحوالي عقد من الزمن، شهد العراق تطورات هامة، فيما يتعلق بحقوق الآشوريين؛ في عام 2005، تم الاعتراف أخيرًا باللغة السريانية كلغة أقلية رسمية في الدستور العراقي، مما فتح آفاقا جديدة للأشوريين لممارسة حقهم في التعبير بلغتهم الأم. حسب الناشط أدد يوسف:

“على ضوء إقرار اللغة السريانية كلغة رسمية في المناطق ذات الاغلبية الآشورية، تم استحداث التعليم السرياني، وفتح قسم اللغة السريانية في كلية الآداب بجامعة بغداد، والان يوجد أكثر من 260 مدرسة في عموم العراق تدرس اللغة السريانية. كما أصبح للأشوريين مطبوعات عدة منها باللغة الأم ومنها بالعربية. تعود هذه المطبوعات لجمعيات، واندية، وأحزاب، ولاتزال تتناول هذه المطبوعات الأمور الدينية، والثقافية، السياسية، والتعليمية الاشورية.”

الاعتراف الدستوري بحقوق الآشوريين اللغوية مصحوبًا بتطور التكنولوجيا، أصبح الآشوريون يشعرون بتفاؤل حول مستقبلهم.  فقد زود عصر الإعلام الرقمي الآشوريين بأدوات فعالة للتعبير عن أنفسهم بلغتهم الأم، وإحياء لغتهم. أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والمنتديات الإلكترونية، ومواقع اللغة الآشورية مراكز للتواصل، ومشاركة المحتوى، والاحتفال بالثقافة.

ذكر الصحفي العراقي الآشوري “خلابئيل”، المعتقل عام 2019 من قبل القوات الكردية بسبب عمله الصحفي، في مقابلة مع منظمة جلوبال فويسز، أن اللغة الآشورية متوفرة في نظام الأندرويد، وأي أس أو للهواتف، وهناك مشروع من فريق آشوري شبابي لتوفير اللغة الآشورية في ترجمة غوغل، ويضيف:

“قدمت التكنولوجيا خدمة كبيرة لنا كآشوريين، لأنها ساهمت في مساعدة هذا المجتمع على استعادة قوته الثقافية من خلال استخدام اللغة في العالم الرقمي، مما يسهل على الآشوريين حول العالم بالتواصل معا بلغتهم الأم.”

بالرغم من التقدم، إلا أن واقع حرية التعبير في البلاد بشكل عام، وواقع الآشوريين بشكل خاص، هي باتجاه آخر في العراق. لا يمكن فصل حرية تعبير الآشوريين في العراق عن المشهد ككل، مشهد يتسم بأجواء مليئة بالخوف، والتهديد، والقتل، والاضطهاد الذي يصاحب ممارسة حرية التعبير في البلاد.  يقبع العراق في المرتبة 172 من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2022 الصادر عن مراسلون بلا حدود.

بالنسبة للآشوريين تحديدًا، لا يزالون يواجهون تحديات مستمرًة في مجال حرية التعبير من ضمن حقوق أخرى في ظل القمع المستمر من قبل الحكومتين العراقية، والكردية؛ تسبب تهجيرهم القسري إلى مناطق باتت تحت سيطرة الأكراد، خلال السنوات العشرين الماضية، إلى هجرة واسعة خارج البلاد. هناك، بالرغم من ضمان الدستور للحرية الدينية واللغوية، إلا انهم يواجهون التفرقة الدينية في جو من عدم الثقة، وتقييد حركتهم، وغيرها من القيود على حرية التعبير.

ابدأ المحادثة

الرجاء تسجيل الدخول »

شروط الاستخدام

  • جميع التعليقات تخضع للتدقيق. الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر تعليق مزعج.
  • الرجاء معاملة الآخرين باحترام. التعليقات التي تحوي تحريضاً على الكره، فواحش أو هجوم شخصي لن يتم نشرها.