نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – كلّ شيءٍ يضجُّ بالموت

السجن الانفرادي - سجن أولد دبو غوال - تصوير كوري باركليمور - من <a href="https://www.flickr.com/photos/corrieb/2743935372">فليكر</a>. استخدمت تحت رخصة المشاع الإبداعي.

السجن الانفرادي، سجن أولد دبو غوال – تصوير كوري باركليمور – من فليكر. استخدمت تحت رخصة المشاع الإبداعي.

هذا المقال هو الجزء الأول من مجموعة “نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري. 

 

بعيداً عن عالمنا الأزرق، الافتراضي، تجد نفسك الوحيد، دون أية جدوى، الذي تختفي انتماءاته. تتسرّب ببطء لترى الألم حقيقةً، تظهر دواخلها، يغطيها معناها، تصبح قائمة من الأحاسيس والألفاظ التي لا تقبل مجازاً.

أما في عالمنا الحقيقي، عندما تُفتح أبواب الكواليس، كواليس العروض الجميلة وسحر المسرح، كما ممثلوه قبل فتح الباب، يتحوّل الناس إلى لحمٍ و دمٍ، وكلّ شيءٍ يضجُّ بالموت. يندثر الشك، وتقتنع بوجودك مع استمرار دوران الأرض حول محور قيامته، وتدرك أنك هنا، خلف أسوارٍ بناها والداك، ومن قبلهما أجدادك، حجراً حجراً.

اعتقلوا والدي، وأنا ثلاث مرّات لم تكن كافية “لأتربّى” على حد قول “رئيس الفرع” الذي بيَّت نيّة بأن تكون الرابعة هي “الثابتة”. حاول كسر حتى مفاهيمنا البسيطة لإثبات هيمنته.

خمسة شبابٍ قُطِفوا من حديقة “ثورتنا” أثناء مظاهرة سلميّة كانت كافية لإشعال المدينة ليلاً بـ”التكبيرات” بجميع أحيائها، عدا الحيّ الذي أسكنه. ولأول مرّة، كان مسكّناً مشبعاً بمعناه في الوقت الذي كان عليه بألا يكون كذلك، وذلك على الرغم من عدم انتظاري الكثير من المدينة التي تعجّ بالأفرع الأمنيّة القريبة والمتعاونين معها من السكان.

الليلة الثالثة. هدوء بعد تعطيل المحوّل الكهربائي الرئيس للحي، شققته بعدة تكبيراتٍ من سطح منزلنا كانت كافية لأسمع صدى صوتي وسط الصمت. ما هي إلا دقائق حتى اطمئنّ عديدٌ من الأصدقاء وعلت أصواتهم معي. لم أكن وحيداً، كانت هناك لائحةً طويلة من الأصدقاء الذين لم يكن للخيال دورٌ في نسجهم. كانوا لوحةً تطابق التطلّعات. تدرك أن المارد يخرج من قمقمه، لكنك لا تأبه.

اتصالٌ من والدي: حضر نفسك، نلتقي في فرع الأمن العسكري. انتهت المكالمة.

اكتشفت وقتها أنّك مهما حاولت امتصاص أكبر كميّة من “السكر نبات” لن تذهب بحّة صوتك بعد هتّافٍ من القلب قبل موعدك في فرعٍ أمنيّ. وصلت. يجلس العقيد غسان مع عدّة عناصر،  والدي وأنا.

بدأ العقيد غسان بالحديث: “سمّعني صوتك وأنت عم تكبّر ولا مو شاطر بالتكبير إلا وأنت بعيد عنا؟” كان يَقطُر لؤماً مثبّتاً عينيه عليّ. “لأ وكمان إلك عين وتحطها بعيني بدل ما تحطها بالأرض!”

لم أكن شجاعاً، ابن الثامنة عشر للمرة الرابعة في نفس الفرع. أرجّح أنه كان طيشاً، غروراً، أو ربما ثورة. كنت واثقاً من إجابتي: “ما توقعت إنك لحقت تنسى صوتي من امبارح، ما أتوقع نسيت إنو ما سبق ونزلت عيني حتى أنزلها اليوم”.

أقصر حوار يمكن أن يتسبب بما تسبب لي فيما بعد – مع عدم ندمي على ذلك. “زتوه بالمنفردة ورجّع أبوه كمان ع المنفردة”.

“رجّع أبوه ع المنفردة”. تلك الجملة النتنة التي لا تنفكّ رائحتها تعشّق في أنفي حتى اليوم، بعد “متلازمةٍ” لشهورٍ كانت أكبر تعذيبٍ نفسي.

أعبر الساحة، المكتب الأول الذي أترك فيه أماناتي، أعود للساحة، أدخل المكتب الثاني الذي يليه ممر للمنفردات، أحفظها تماماً قبل أن أدخل. يبدو أن منفردتي، وعلى عكس العادة، ستكون أكبر هذه المرّة، إذ لا يشاركني فيها إلا سجين واحد، وعلى غير المعتاد استطعت الجلوس فوراً دون انتظار الدور.

دقائق كادت تعادل نصف العمر. خرج السجّان، وبوسيلة تواصلنا المُتعارف عليها، ضرب الحائط بقبضة اليد، عرفت أنه شابٌ يبدو في “مُقتبل الاعتقال”. وبعد ترددٍ طويل أجابني، المنفردة التي بجانبي والأخرى التي أمامي، كلتاهما تنفي دخول أي رجلٍ. ليس كبيراً في العمر، وليس صغيراً، تظهر عليه الهيبة، يشبهني، ويطلقون عليه “الدكتور”. ما من معالم لوجهي في هذا الظلام الدامس، وما من أطباء هنا، جميعنا أرقام. “ربما صوته يشبه صوتي؟” جميع الإجابات تنفي. ربما أخذوه للزنزانات الكبيرة، ربما ساقوه للتحقيق فوراً، إذ أكّد المحقق أنهم سيخرجونه إن بقيت أنا. كاذبون. لا أجد “فزّاعةً” تُسكت كل هذه الغربان الآكلة في “بستان” العقل.

بدأ التكبير من الخارج، يبدو أن الساعة وصلت العاشرة ليلاً، الموعد اليوميّ للتكبير. فُتح الباب. كنت متيقّناً أنّ نذير الشؤم لا يأتي إلا أسوداً حتى رأيت ضوء الممر الأصفر الذي ساق لنا المساوئ عند “رعد”، بعد قفل الباب القديم.

“اطلاع ع التحقيق”. عرفتُ السرّ: حفاظاً على أمن البلاد منّا وكي لا نطلق العميل والإرهابي الذي يسكننا، يتمسّكون باللهجة التي نُسبت لـ”العلوية”، ورقة ابتزازهم الطائفي، و زاويتهم التي ينظرون منها، لا وطن ولا دولة، هي لعنةٌ أسموها عيشاً مشتركاً ليجعلوا من مجرم فصيلتهم البطل.

أدخل غرفةَ التحقيق حيث “أبو عماد” صاحب الجسد النحيل، القصير، بالنسبة لي على الأقل. بدأ حديثه “الودّي” رغم عدم قدرته على إخفاء تعابير وجهه: “يا ابني، أنت لساتك بأول عمرك، بتقدر تعمل كتير قصص أهم من إنك تضيع عمرك ومستقبلك مع كم صايع عم يطلعوا مظاهرات رح تخلص عن قريب”. لجأت للصمت. حفظت هذه الأسطوانة عن ظهر قلب، لم أعد أذكر متى تماماً، عندما صار التعرض للكلام الودّي، ثم الإهانات واستعمال الضرب، كوسيلة للحوار، أمراً طبيعياً. لم أهتم كثيراً بمتى وكيف. يقينٌ قلبيّ راودني باعتياد العِقاب دون خطأ يستأهله، أن يأتيني بكلّ الأشكال، توكل إليه مهمة أخذ ما يستطيع من جلدي، أو ما يودّ تسميته “اعترافات”. يبدأ بـعصا تٌستخدم كأنبوبٍ مقوّى في التمديدات الصحيّة. يستمتع جلّادك بالصراخ، أعطه متعته، لا مجال هنا لأن تقارعه بالسكوت. لم يُطربه كثيراً ما سمعه، فاستبدل بالعصا كبلاً كهربائياً – في اعتقالي الأول دار تساؤل بيني وبين نفسي عما إذا كان المحقق يعمل في جمع الأدوات القديمة أم أنه بدأ بعمله كمحقق مع هذه المعدّات فوراً. كبلٌ مجدول، أربعة أكبالٍ جُدلت لتُنتج لنا هذا الاختراع العظيم – بنظرهم.

كانت ساعةً فقط، تناوب خلالها ثلاثة، وأنا بقيت في مناوبتي ذاتها. بدأ الجسم بالخدر، وفقدت صوتي كي أستمر بالصراخ. تحسّس البرود داخلي، لم يعجبه الأمر، فرادوته فكرة وخزي بعصاةٍ كهربائية. كهرباء سرت في جسدي كانت تكفي لإعادة التيار الذي قطعناه عن الحي في ليلتنا السابقة. جسمي شبه العاري، الممدد على الأرض، كافٍ لتفريغ الشحنة فورياً. ذهب الخدر وعاد الألم من جديد. ساعتان عِجاف ثم قرر أن يُنهي سهرته على ساعةٍ أظنها منتصف الليل. قررت العودة والنوم، أو دعنا نقل أنه كان خياري الوحيد.

ما هي إلا ساعات، ولولا أذان الفجر لظننتها دقائق. فُتح باب المنفردة وأطلّ الضوء المشؤوم. “اطلاع ولاك لبرا”.  أجيب بصوتِ المراهق المرهق: “يا سيادة المحقق يعني أنا أبوي ما ينام ويصحى إلا على وجهي”. “أخرس واطلاع عندك نقل”. كانت مفردة جديدة أسمعها منه. في المرات السابقة كان إخلاء السبيل من المفرزة. إلى أين سيتم نقلي!

ابدأ المحادثة

الرجاء تسجيل الدخول »

شروط الاستخدام

  • جميع التعليقات تخضع للتدقيق. الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر تعليق مزعج.
  • الرجاء معاملة الآخرين باحترام. التعليقات التي تحوي تحريضاً على الكره، فواحش أو هجوم شخصي لن يتم نشرها.