قبل عقد من محاولة اغتيال سلمان رُشدي الأخيرة، كَتب الصحفي المِصري، محمد أبو الغيط مقالًا تحليليًا موسّعًا عن الروائي، مقدماً شخصية وموضوع لجمهور لا يعرف شيئًا، بالغالب، عن رُشدي عدا كتابه، “آيات شيطانية”، الذي اعتبره الكثيرون مُسيئًا للمسلمين على الصعيد العالمي.
في ذلك التقرير، نظر أبو الغيط إلى ما هو أبعد من الكتاب الذي أثار دعوات لاغتيال رُشدي، وأظهر جانبه كإنسان، وكاتب، ومؤلف، ومصدر إلهام. منذ أن أثارت حادثة الطعن في 12 أغسطس/آب 2022 اهتمامًا حديثًا بالروائي، لَقِيَ مقال أبو الغيط —كتبه عندما كان يبلغ من العمر 23 عامًا— رواجًا واسعًا، نظرًا لبحث القُراء عن سرد شامل وموثوق عمن يكون رُشدي.
الكثيرون ممن يعرفون أبو الغيط مُلِمون بأعماله الصحفية الاستقصائية وتقاريره الحائزة على جوائز، هذا التقدير لأعماله ليس بالأمر الجديد؛ فرغم محاربة الصحفي البالغ من العمر 34 عامًا لمرحلة متقدمة من سرطان المعدة، الذي توغل لأجزاء أخرى من جسده، يُقدم لقرائه ومتابعيه رؤية صريحة عن رحلته نحو النجاة، عبر منشورات واضحة، ووصفية، وتثقيفية على فيسبوك، تُفصّل معركته المستمرة منذ حوالي العام.
في المنشور الذي أعلن من خلاله اكتشاف وجود خلايا سرطانية في جسده في أغسطس /آب 2021، وضح الصحفي المِصري كيف أنذره جسده بعِلّته من خلال حُلم متكرر، حيث يرى نمو إبر حادة في فمه، والتي كانت طويلة كفاية لتصل إلى بطنه وتزداد طولًا كلما حاول اقتلاعها. قال الاستيقاظ من هذه الكوابيس كان يتلوه دومًا ألم بالغ في حنجرته. كتب: “كان جسدي يستنجد ولم أعِ ذلك.”
منذ ذلك الحين، في سلسلة من المنشورات التي تتسم بالإطالة، لكن مثيرة للاهتمام، أخذ قُراؤه ببلاغة في دوامة من مشاعر الإحباط، والقبول، والخيارات، والألم الجسدي، والتقدير الذي يكنه لزوجته وأصدقائه، الذين واصلوا دعمه بينما ظل بعيدًا —لأسباب أمنية— عن عائلته المُقيمة في بلده الأم. في خضم تلك الأحداث الشاقة، دَأَبَ على نقل المعلومات الطبية حول تطورات حالته الصحية، مُضيفًا عُمقًا علمّيًا من خلفيته كطبيب.
في الثالث من أغسطس/آب، كتب:
العازف بالبدلة الحمراء
..يتميز القانون الجنائي المصري بوضع غريب فيما يخص أحكام الإعدام: لا موعد لتنفيذها.
بعد أن يستنفد المحكوم عليه كافة درجات التقاضي، ويصدق رئيس الجمهورية على الحكم، يظل السجين مرتدياً البدلة الحمراء في انتظار الموت، وهو انتظار قد يستغرق أسابيعا، أو أشهرا، أو سنوات قبل أن يُفتح الباب ويخبرونه فجأة أن الوقت قد حان!
لهذا الوضع جانب إيجابي، فالعديد من السجناء خاصة بالقضايا السياسية أمضوا سنوات طويلة دون تنفيذ الأحكام، وانتهى الحال بإطلاق سراح بعضهم بعد تبدل الأحوال.
لكن له جانب قاس جدا، هو مرور الوقت على ذوي البدلات الحمراء في انتظار الموت بأية لحظة.
كثيرا ما تمثلت حياتي كمريض سرطان بحياة هؤلاء؛ كيف يمضون وقت انتظار الموت؟ أيتناسون الأمر؟ أيعتادونه؟
حين أقوم حاليا بأي نشاط متوسط أو طويل المدى، بدءا من زراعة حديقتي وحتى أي نشاط مرتبط بالصحافة أو الكتابة، أفكر أحيانا في مدى حماقة ما أفعل. هل يتقدم محكوم بالإعدام بطلب للدراسة بإحدى الكليات؟ هل يمارس الرياضة لبناء عضلاته؟
صحفي لا نظير له
خلال معركته المؤلمة ضد المرض الخبيث الذي لم يتجاوب مع أي من العلاجات الموجعة التي يخضع لها، والتي حولت جسده اليافع ضعيفًا وهزيلًا، لم يكف أبو الغيط عن صُنع أعمال صحفية لا تشوبها شائبة.
في ذات المنشور على فيسبوك، الذي نُشر في الثالث من أغسطس /آب، بيَن تفاصيل الخضوع لجلستين من العلاجات القاسية والعلاج الكيميائي، وصف كيف أن مساهمتِه في تقرير استقصائي نُشر لصالح CNN، حول استغلال روسيا لمناجم الذهب في السودان لتمويل حربها في أوكرانيا، جعلته يبتسم لأول مرة منذ أيام.
قبل أشهر من مناقشة مرضه علانية لأول مرة، أعلن في فبراير /شباط 2021 عن تلقيه جائرة فيتيسوف عن عمل أخر يتعلق بالسودان:
Delighted to announce that we, @nickpdonovan, @RichyK37 and my self, have been awarded with Fetisov Journalism Award @fjawards, 1st Prize in “Outstanding Contribution to Peace” for our work on financial network of the Sudanese RSFhttps://t.co/0ICi1LYJaXhttps://t.co/Ow3yWCTVWG pic.twitter.com/xHmBgVcN82
— mohamed abo-elgheit (@MohAboelgheit) February 10, 2021
يسرنا، أنا ونيك دونوڤان وريتشارد كنت، أن نعلن فوزنا بجائزة فيتيسوف للصحافة، الجائزة الأولى في فئة “الإسهام البارز في السلام” لعملنا المتعلق بالشبكة المالية لقوات الدعم السريع السودانية.
قبل أشهر من تشخيصه، تواصل أيضًا مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد للإنضمام إلى 163 صحفي لجمع التسريبات السويسرية. رغم هذا المرض، ساهم في التقارير التي نُشرت خلال مطلع العام الجاري وكشف عن حسابات خارجية تعود لشخصيات بارزة من شتى أنحاء العالم، بما فيهم طُغاة وأُسرهم من الشرق الأوسط.
باعتباره خبيرًا في الصحافة الاستقصائية، يُعد عمل أبو الغيط فريدًا في مكانٍ مُعادٍ للصحفيين على نطاق واسع، لاسيما أولئك الذين يستقصون عن المواضيع الحساسة مثل الأمن، والفساد، وانتهاك حقوق الإنسان والتي تناولها أبو الغيط ببراعة امتدادًا من مِصر إلى اليمن، وفلسطين، وسوريا.
لقد أكسبته هذه الجودة الصحفية المميزة جائزة رابطة مراسلي الأمم المتحدة، فضلًا عن جوائز سمير قيصر من الاتحاد الأوروبي.
سِجلاته الشخصية
بالنسبة لأكثر من 155 ألف متابع مُتطلع لحساب أبو الغيط على فيسبوك، تُمثل كتاباته علاجًا يُتيح مستجداتٍ عن حالته الصحية ومعركته مع السرطان، اضافة إلى رؤية استثنائية تتعمق في تجربة ورحلة مريض سرطان يعاني لصمود أمام مرض مُدمِر، والتي نادرًا ما تتم مناقشتها في المنطقة.
لاتزال مناقشة المشاكل الصحية علانية مسألة غير شائعة في الشرق الأوسط، لاسيما من قبل الرجال، لأنها تُظهر أوجه الضعف والوهن –إنها مشاعر يندر الحديث عنها بانفتاح.
حُسام مصطفى إبراهيم، شريك مؤسس لمنصة اكتب صح المتخصصة في تدريب الصحفيين– كتب على فيسبوك:
صديقي Mohamed Aboelgheit يُحقِّق على أرض الواقع المقولة التي كنَّا نردِّدها طوال حياتنا على سبيل المجاز: الكتابة حياة..فهو يتوسَّل بالكتابة بالفعل كي يحيا!محمد يُسجِّل نزاله مع السرطان، يحملنا معه على مركب الآمال والآلام في كل تدوينة جديدة، لنخوض معه رحلة إنسانية شاقة لاهثة الأنفاس، لا نكاد نصدِّق أنه ليس مجرد راويها فقط، إنما هو نفسه الشخص الذي يحكي عنه، هو نفسه الذي يكابد كل هذا، وحده ويتسامى عنه حتى يرصده بهذا الوعي المُرهَف المدهش!لم أقابل محمد ولا مرَّة وجهًا لوجه، لكني قابلته إنسانيًا عبر كتاباته المُشبِعة الحقيقية، ودقَّقت له من قبل أحد التحقيقات التي كتبها لأريج حيث فازت بجائزة دولية، وفي كل ذلك وجدته ذلك الإنسان الرائع، والمبدع، والحساس لكل ما يحيط به، والقادر على امتصاصه وإعادة إنتاجه بشكل غير مسبوق!
لقد جذب آلاف ردود الأفعال في غضون ساعات من نشر كل منشور، ابتداءً من الدعاء له إلى التعبير عن الامتنان له، أعرب الكثيرون أن توثيقات كهذه نادرة بالنسبة للقُراء العرب، وفعل شُجاع.
كتب هشام أصلان، كاتب في جريدة المُدن، في أبريل /نيسان:
بعد الدعوات بالشفاء للصديق العزيز محمد أبو الغيط حابب أقول، بالأحرى أسجل لنفسي من باب أننا جميعا نعيش ونتعلم، إن ما يفعله هذا الكاتب الاستثنائي بنصوصه السردية الطويلة حول يومياته مع المرض، أنه يعيد صياغة مفاهيم كبيرة لجدوى الكتابة وأثرها على صاحبها وقارئها والإنسانية بوجه عام، أو أنه على أقل تقدير، أحد قليلين خرجوا بتلك المفاهيم من الحيز النظري لوسع الواقع الملموس في أبلغ وأوضح المتاح للقدرة البشرية وأعلى حالات اختلاط الموهبة في توهجها بصدق سؤال الكتابة لدى كاتبها، كيف تمنحنا هذا الجمال من قلب أشد حالات الألم الشخصي فيما تمنح نفسك حياة؟ كيف توسع عالمك جاذبا إيانا نعيش فيه مع أبطال حكايتك وأحداثها؟ كيف باتت طرقات المستشفى كواليس مسرحا لا نستطيع صرف أعيننا عن خشبته؟ نراقب مداخلات شخوصه مشدوهين، بينما يفيق الواحد فجأة على كون الكاتب هو صاحب الألم يعري السخرية ليفهم الجميع كم هي شيء حزين حين تظهر حقيقتها. لطالما شعرت بالحرج بينما تتوارى تمنياتي ودعواتي بالشفاء في تعليق وراء دهشتي مما تكتب وتفعل. محمد الكاتب اللافت منذ عرفته قبل سنوات لم تعد قليلة، وقت تزاملنا في جريدة الشروق، هو وجه يتجلى من وجوه الإلهام ومعانيه الحقيقية والكبيرة. صباح الخير يا كاتب يا كبير.