ماريوبول مدينة أوكرانية تقع على بعد 20 كيلومتر من خط المواجهة بين الانفصاليين المدعومين من روسيا والجيش الأوكراني. وهي مدينة هادئة تعيش في سلام، لكنها قريبة بما يكفي لتسمع ضجيج الحرب. تصاعدت وتيرة القتال بين الانفصاليين والجيش الأوكراني في الأشهر الأخيرة، ويمكن لسكان ماريوبول سماع دوي قذائف الهاون والصواريخ عندما تهب عواصف الحرب من الشرق، وتحديدًا من شيروكن وونوفوترويتسك وهي المدن الواقعة على خط المواجهة.
جعل الأوكرانيون من ماريوبول خط دفاع لهم في الرمال: حيث تعتبر هذه المدينة الميناء الأساسي لعمليات النقل وكذلك لديها منفذ على بحر أزوف واثنين من مصانع الصلب الضخمة وصناعات ثقيلة أخرى متنوعة. يريد الروس الاستيلاء عليها من أجل جسر بري إلى جزيرة القرم مما يضمن استمرارية استراتيجية مزاعمهم على هذه المنطقة.
قضيت أسبوعًا طويلًا فيها، حيث تجولت في المدينة والتقطت الصور واستمعت لأراء الناس تجاه الصراع من ناحية أحوالهم الخاصة وفهمهم لطبيعة التهديدات. هل يمكنني أن أصور وأشرح الضغط النفسي وعدم الاستقرار الناتج عن قرب هذه الجبهة من الأحداث؟ وكيف يمكن لهذه الضغوط أن تكون حاضرة في المشهد؟
يتضح جليًا التأثير المتبادل للصراع المعلوماتي والعنف الجسدي في هذه الحرب، حيث التضليل الاعلامي وأحداث البلبلة التي تنكر العنف الحاضر بوضوح وتسعى لإرباك القوات المتحاربة والمجموعات السكانية الرئيسية. شهدت هذه الحرب ازدهارًا في تعقب الأدلة عبر مصادر الإنترنت وكذلك التلاعب المحتمل بالأدلة. يلعب التشويس في هذه الحرب دور مهم وليس مجرد عامل مؤثر، أما الخطاب الضبابي فهو سمة الحرب، أو بعبارة أخرى يهدف لإضفاء الشرعية على فكرة حرب المعلومات. في هذا السياق يعتبر خطاب “الحرب الهجينة” شكلًا جديدًا من الحرب على الرغم من أنه ليس بجديد، إلا أنه يخلق بيئة يمكن فيها تحدي المعايير وقوانيين الحرب الدولية.
قبل الحرب، دعم سكان ماريبول الثقافة واللغة الروسية بقوة، كما شاركوا لفترة قصيرة في جهود الانفصال عامي 2014 و 2015. دعم هذا الجزء في أوكرانيا بأغلبية ساحقة فيكتور يانوكوفيتش في الانتخابات، كما شاركت الشرطة المحلية في محاولته للاستيلاء على السلطة. وفي نفس الوقت، فإنه من الصعب إخفاء آثار الحرب والسياسة على حياة الناس. قد تكون جذابة كونها جزء من روسيا ولكن فكرة الانتماء لشبه دولة منبوذة ليس جذابًا على الاطلاق.
النتيجة هي التعب وحالة من التحفظ والكتمان. يدرك العديد من السكان الآن مخاطر الانضمام للحركة الانفصالية، والصراع والعزلة التي قد تنتج جراء ذلك. تسيطر القوات الأوكرانية مع الميليشيات على المدينة والمطار، كما قام الجيش بتعزيز قواته على الجبهة. لاتزال روسيا تملك قوة عسكرية ضخمة لكن هذا لا يضمن الدعم الشعبي أو ضمانة تحقيق انتصار سهل على القوة الأوكرانية التي كان لديها الوقت لتعلم القتال.
تتمتع ماريوبول بالسلام والشوارع الهادئة. قد يكون من المغالاة أن نصف المدينة بأنها تحبس أنفاسها، لكن في الآونة الاخيرة، ترد الأنباء من موسكو بأنها تزيد من عمليات نقل الأسلحة للمقاطعات الانفصالية المنعزلة وأن ترويجهم لمسألة وقف إطلاق النار بات أمرًا بحكم المنتهي. تخلق هذه التحركات حالة من التساهل الأخلاقي الذي يجعل من تجدد الصراع احتمالًا قويًا.
يخلق خطاب الكريملين وجود تكتيكي سواء قررت روسيا الغزو أم لا، فمع هذه الحالة من المناورة يمكن أن تجهز نفسها نظريًا بل وتبرر لأسباب الغزو كما يمكنها ببساطة عرض المزيد من القوة على طاولة المفاوضات عندما يجلس الزعماء في المرة القادمة لإجراء محادثات السلام. وتختبر روسيا مرة أخرى بهذا السلوك مقاومة تأكيد هيمنتها الإقليمية على أوكرانيا.
تم نشر نسخة من هذا المقال على موقع ivansigal.net