منذ ثماني سنوات خلت، غادرت صوفيا وديما وفيكا وأندري ومارينا مسقط رأسهم في منطقة دونباس شرق أوكرانيا بعد أن سيطرت روسيا عليها عام 2014.
وانتقلت مجموعة الأصدقاء هذه إلى كييف. وفي 25 فبراير / شباط، غادروا العاصمة الأوكرانية بعد أن بدأ القصف الروسي على المدينة.
انتقلت معهم مراسلة أوبين ديموكراسي، تيتيانا بيزروك، في السيارة من كييف إلى خميلنيتسكي – وهي بلدة تقع على بعد 350 كيلومترًا غربًا – لمعرفة ما معنى أن يهرب المرء من منزله للمرة الثانية في غضون ثماني سنوات.
25 فبراير / شباط
إنها السادسة صباحًا في منزل كبير خارج كييف. في غرفة كبيرة تضم مدفأة ما زالت مطفأة، ينام اثنا عشر شخصًا على الأرض. الستائر مغلقة. ويعمّ صمتٌ مطبق.
وفجأة تصرخ صوفيا: “استيقظوا! علينا الهرب الآن! استيقظوا!”. انهضوا جميعكم! علينا أن نهرب إلى الطابق السفلي!”.
أنهض، فأسمع صوت طنين فوق المنزل – إنها على الأرجح طائرة. أرفع عني بطانيتي، وأحمل سترتي وهاتفي، وأركض نحو الممر. ثمة عدة أشخاص أمامي. ننزل سلمًا حديديًا في صف واحد إلى الطابق السفلي. الجو بارد ورطب هناك، ولكن ثمة بعض الألواح الخشبية على الأرض – كان أصحاب المنزل قد حضّروها للجلوس عليها.
التغطية الهاتفية سيئة، ولكن ما زال بوسعنا قراءة الأخبار. الجيش الروسي يقصف المناطق السكنية في كييف. على وسائل التواصل الاجتماعي صورٌ لسماء الليل تخرقها خطوطٌ متوهجة. تبدو كالألعاب النارية، ولكنها ليست كذلك. توزّع صوفيا البطانيات الدافئة على الجميع.
ديانا الصغيرة* معي في الطابق السفلي. عمرها ثمانية أشهر. تشعر بالنعاس الشديد بين ذراعَي والدها. ترتدي ديانا بطانية أطفال مخملية مرسوم عليها شخصيات كرتونية. تنظر إليّ وتبتسم. هنا في الطابق السفلي الرطب، تحاول والدة الفتاة تغيير حفاضها. ديانا صامتة لا تتحرك.
وعلى مقربة من ديانا، يجلس أوليج* ابن الست سنوات. أوليج يرتدي كنزة خضراء وسترة، ويلهو بهاتفه. خلفه صبيّان في المرحلة الثانوية يتلحّفان ببطانية واحدة ويضحكان. ديانا وأوليج والأطفال الآخرون هنا هم أبناء أهلٍ اضطروا إلى مغادرة مسقط رأسهم في دونباس. بعضهم انتقل إلى كييف في عمر الطفولة؛ ديانا وأوليج ولدا هنا. وحتى شهر فبراير / شباط 2022، لم يتذكرا أو يعرفا الحرب.
غادرت صوفيا وأصدقاؤها مسقط رأسهم عام 2014 بعد أن احتل المدينةَ مقاتلون موالون لروسيا في أعقاب الثورة. فركبوا سيارة وسافروا مسافة 800 كيلومتر إلى كييف. وأمضوا ذلك الصيف معًا في شقة كبيرة. وها هم بعد ثماني سنوات يعودون إلى السفر عبر الطرقات.
نركب السيارة، عازمين على مغادرة كييف. ندنو من السيارة فنسمع حينها صوتًا قويًا. هل هي طائرة؟ ينظر أحدنا إلى الآخر. ويتكرر الصوت نفسه. إنه صوت قوي ومرتفع لطائرة تحلق فوق رؤوسنا. لا نستطيع رؤيتها. ولا نعرف مدى قربها. نركب السيارة ونرحل.
في الطرقات سياراتٌ كثيرة، وبعض السائقين يقودون على المسلك المعاكس لتجاوز السيارات الأخرى. يحل المساء، فتتلوّن السماء ببرتقالي مائل إلى الوردي. للمرة الأولى، أشعر أنني قادرة على النظر إلى السماء – لا لأسمع أصواتًا منها، لا لأبحث عن طائرة، بل لأشاهد غروب الشمس. عشرات السيارات خلفنا. الكل يغادر.
تقول ديما: “نحن بحاجة إلى حبل”. لقد بدأ الزيت يتسّرب من إحدى السيارات، وعلينا إما البحث عن وسيلة نقل جديدة في مكان مجهول، أو جرّ السيارة بحبل. ووقع الخيار على الاحتمال الثاني. ربطنا شريطَين ملوّنين بعدة ألوان بإحدى السيارات ثم علّقناهما بالسيارة الثانية، وانطلقنا.
نصل إلى قرية في منطقة خميلنيتسكي في وقت متأخر من الليل. لصديقتي أقارب هنا لم ترَهم منذ أكثر من 15 عامًا. وقد سمحوا لنا بالمبيت عندهم ليلاً لأن السائقين تعبوا جرّاء القيادة ليوم كامل.
المرأة التي وافقت على إيوائنا تدعى ليودميلا*. توافينا عند مدخل القرية. نركن سياراتنا في الباحة خلف منزلها وندخل البيت. الجو دافئ. الموقد الحجري مشتعل. لقد حضّرت لنا ليودميلا الحساء لكني لا أرغب في الأكل – أريد أن أنام.
نستعد للإيواء إلى الفراش. ينام الأطفال وأمهاتهم على الأسرّة، والباقي على الأرض. يقوم أحدهم بافتراش الأرض ببُسُط تخييم أحضروها معهم.
يعطينا مضيفونا بطانيات دافئة. آخذ واحدة وأضعها على الأرض. أعتمر قبعتي. الهواء يخترق النافذة. أغطّي نفسي بسترتي الشتائية المغبّرة من رحلة الطريق. لا أتذكر كيف ينتهي المساء. أغط في النوم خلال دقيقتين.
26 فبراير / شباط
في الصباح، تبدو الغرفة أشبه بشاطئ يستجمّ عليه الناس. ولكن لا وقت للاستجمام.
“نحن راحلون”، تقول فيكا* للصغير أوليج المستلقي براحة على السرير، متلحفًا ببطانية.
“ماما، إلى أين سنرحل مجددًا؟” ويبدأ أوليج النعسان بالبكاء.
“حسنًا سأخبرك”، تجيب فيكا وتشرح لابنها إلى أين هم ذاهبون ولماذا. يهدأ الصبي ويرتدي سترته.
تبدأ ليودميلا بإعطائنا التفاح، وتسأل: “هل أعطيكم بعض السالو [طعام تقليدي من دهن الخنزير المقدد]؟ هل يريد أحد الحليب؟” نعتذر ونطلب أعواد ثقاب لا أكثر، إذا أمكن، لأننا لم نرَ متجرًا واحدًا على طول الطريق. فتعطينا ليودميلا علبًا عدّة.
فيما نهمّ بالمغادرة، يصل آخرون إلى المنزل. لقد أحضر لنا رجلٌ عبوة بنزين. سوف تفيدنا لأنه لا يمكننا ملء خزان الوقود في أيٍّ من محطات الوقود – فقد نفذت كلها من الوقود. أخيرًا، أندريه*، الذي غادر أيضًا دونباس عام 2014، يحتضن ويشكر كل النساء اللواتي تجمّعن خارج المنزل. ونمضي في سبيلنا.
نصل إلى خميلنيتسكي. كان عمّال أحد المطاعم قد أزالوا الطاولات الموجودة في الطابق الثاني ووضعوا الأفرشة على الأرض ليتمكن الناس من الاستراحة من تعب الطريق. يواصل رفاقي طريقهم، ويقول أحدنا للآخر: “أراك قريبًا”. وآمل ذلك. بالكاد أقرأ الأخبار في هذا اليوم، ولا أفتح هاتفي إلا في المساء. لقد قصف الروسيون مناطق سكنية في كييف مرة أخرى. أصدقائي يختبئون داخل الملاجئ والطوابق السفلية في العاصمة. وبعض الصحافيين الذين أعرفهم تسجّلوا للدفاع عن الأرض.
في وقت لاحق من الليل، فيما أهمّ بالإيواء إلى الفراش، أحاول أن أعرف في أي يوم نحن. أهو يوم الجمعة؟ لا أستطيع أن أجزم. إنه السبت، اليوم الرابع من الحرب، حين بدأت الدبابات الروسية بقصف البلدات في كل أنحاء أوكرانيا.
* تم تغيير الأسماء لحماية الأشخاص المذكورين في هذا التقرير.